يشرفني أن أتناول الكلمة في إطار الجلسة الشهرية لتقديم “أجوبة السيد رئيس الحكومة على الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة”، في محور : “سياسة الحكومة لمعالجة تحديات التعليم والتكوين المهني والبحث العلمي ببلادنا”.
إنه موضوع وطني كبير، موضوع شاسع متعدد الأبعاد يصعب، بل يستحيل الإلمام به في بضعة دقائق. ومصير بلادنا، ومستقبل أبنائه، مستقبل وطن وشعب، يتوقف إلى حد كبير على حل هذه الإشكالية العويصة، إشكالية التعليم والتكوين المهني و البحث العلمي.
ونظرا لضيق الوقت المخصص للمداخلة، سنركز على محور البحث العلمي في منظومتنا التربوية.
غير أن مسار تطوير البحث العلمي لا يمكن مقاربته بمعزل عن المنظومة التربوية ككل، لأنه امتداد لها، وترجمة لانتكاساتها وإخفاقاتها.
لن نتطرق لتشخيص أزمة التعليم والتكوين، فالتشخيص معروف وأسباب وتجليات الأزمة واضحة ويقر بها الجميع. السؤال المطروح علينا اليوم هو ما العمل لمواجهة هذه الأزمة والخروج منها ؟ هل نجتر نفس الخطاب، ونفس المقاربة، ونفس الرؤية مع بعض الترقيعات والمبادرات القطاعية ، كما فعلت حكومات سابقة بدون جدوى؟ أم نحن مطالبون اليوم، أمام الفشل المتتالي لكل محاولات الإصلاح السابقة، بمقاربة جديدة جريئة، ومراجعة شاملة، وقرارات تاريخية لمعالجة وحل الأزمة وليس تجلياتها؟
المطلوب اليوم تغيير رؤيتنا، كأمة وليس فقط كأحزاب أو كمكونات سياسية، لقضية التعليم والتكوين المهني والبحث العلمي، تغييرا جذريا وفتح أفاق جديدة ضمن رؤية أشمل لمجتمع العلم و المعرفة.
إن إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي ببلادنا يبقى “مسؤولية مشتركة” بين الدولة والأسرة وهيئات المجتمع المدني والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين … .
وكان طموحنا أن تشكل مناقشة مشروع القانون – الإطار فرصة مثالية لتحقيق التعبئة الشاملة حول رهان الإصلاح الشامل للمنظومة التربوية الوطنية وتأهيلها وتجديدها.
لكننا نلاحظ بأن النقاش العام ما لبث أن سقط في مجريات يطغى عليها طابع هوياتي ضيق بعقلية اعتقاد البعض أنه يملك لوحده سر الهوية الوطنية. مما جعل المشروع عاجزا عن تجاوز الهندسة اللغوية بوضعها في إطارها الموضوعي المستقبلي تأسيسا على المصلحة الوطنية ومصلحة الأجيال ومصلحة البلاد.
ولو فعلنا الذكاء الجماعي واستحضرنا المصلحة الوطنية الخالصة لما ضيعنا الكثير من الوقت في معارك جانبية غير مثمرة.
السيد الرئيس،
لقد أثار انتباهنا في تقرير رئيس الحكومة عن حصيلة نصف الولاية أنه لم يشر إلى البحث العلمي إلا في فقرة يتيمة، رغم أن البحث العلمي بشقيه النظري والتطبيقي بجانب تنمية الموارد البشرية يشكلان ممرا طبيعيا لأية تنمية بشرية منصفة ومستدامة.
فلا يمكن أن نتصور تنمية بدون كفاءات ولا بحث علمي، كما لا يمكن تصور وجود كفاءات ولا بحث علمي بدون قرار سياسي.
ولا يمكن إرساء نموذج تنموي جديد دون التركيز على تثمين الكفاءات والخبرات المغربية بشراكة مع الخبرات الدولية وبدون الاهتمام بالمدرسة العمومية، باعتبارها المدخل الأساسي والمحوري لكل إصلاح هادف.
ونتساءل، ونحن في خضم نقاش وطني حول النموذج التنموي الجديد، هل يمكن بناء هذا النموذج بدون بحث علمي حقيقي ومنتج ؟ ليس فقط من منطلق أبحاث نظرية مصيرها رفوف مكتبات المؤسسات الجامعية ومعاهد البحث، بل أيضا وأساسا أبحاث علمية يعقبها استثمار في مجالاته، بل و اختراع و إنتاج وصناعة … في خدمة التنمية المستدامة والشمولية.
فهل هناك بلد في عالم بلور ومارس نموذجا تنمويا بدون بحث علمي وإنتاج ينبني عليه؟ هل هناك بلد في العالم تقدم بدون بحث علمي؟
فما موقع ومكانة البحث العلمي في نموذجنا التنموي الجديد المنشود؟
فمن شأن تقوية مكانة البحث العلمي أن يمكن المغرب عبر تعزيز الاستثمار في رأسماله البشري والاجتماعي من أن يأمل تحقيق مكاسب اقتصادية وعلمية هامة وملموسة.
كلنا نعلم أن بلادنا تتوفر على مركز وطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني منذ منتصف السبعينات بمقتضى ظهير 5 غشت 1976وأسندت له العديد من المهام في ظل غياب سلطة حكومية معنية بتطوير وتوجيه وتدبير الأبحاث العلمية والتقنية على جميع الأصعدة.
ثم جاء قانون 00.80 المتعلق بإحداث المركز الوطني للبحث العلمي والتقني (CNRST) في غشت 2001 لسد الفراغ فيما يخص الدور الهام الذي تلعبه العلوم والتكنولوجيا في مستقبل الاستراتيجيات الدولية.
مما يجعلنا نتساءل عما تحقق من الطموحات التي كانت وراء سن هذا القانون – والذي لم نعد نسمع عنه الكثير؟ خصوصا وأن لهذا المركز مسؤولية مواكبة السياسة الحكومية من أجل النهوض بالبحث العلمي والابتكار والتنمية التكنولوجية، من خلال تقوية مرتكز تمويل البحث العلمي واعتماد منظومة للتقييم والتتبع وانتقاء المشاريع وضمان استمرارية جميع الخدمات المرتبطة بالبحث العلمي وإرساء الحكامة الجيدة. كل ذلك من خلال استراتيجية المركز 2018 – 2022 .
وكم كان بودنا أن نسمع من الحكومة عن موقع البحث العلمي في سياستها العمومية ومآل المجهودات المبذولة عبر عقود، وما هي حصة البحث العلمي في عمل الحكومة في نصف ولايتها؟
من موقع مجلس المستشارين كصوت المنتخبين بامتياز، نتساءل حول موقع البحث العلمي الموجه للتنمية ولدعم الجماعات الترابية.
البحث العلمي: رافعة في خدمة التنمية والقرار الترابي
فكثيرا ما يحتاج الفاعل السياسي والترابي لتوجيه علمي وتقني وعملي مرتبط بتدبير المجال بهدف تطوير فهم الفاعلين وتحسين جودة المعلومة العلمية والتقنية ومستوى تداول المعلومة والمعارف بهدف المساعدة على تبني الخيارات الرشيدة.
والمغرب، حسب شهادة العديد من المؤسسات، لديه ميزة التوفر على “خرائط طريق قطاعية” (المغرب الأخضر- مخطط التصنيع – مخطط المغرب الرقمي – المخطط الأزرق – …): و هي وثائق تسمح بتقاسم عملية التشخيص وتحديد الأهداف والغايات، لكنها تقتصر في الغالب على وصف أهداف طموحة ومرقمة دون أن ترفق بتدقيق وتحليل مخبري بحثي أكاديمي يسمح بتبرير الاختيارات والتوجهات.
كما أن الدولة المركزية تبادر في غالب الأحيان إلى إطلاق سياسات عمومية على نطاق واسع دون المرور بالمحطة الإجبارية والمنطقية للتجريب على المستوى المحلي، فيما مستوى تداول المعلومات والمعارف ونقلها كما ونوعا لا يسمح بتطوير فهم الفاعلين وتحسين جودة المعلومة العلمية والتقنية في خدمة التنمية.
فبدون تطوير القرار الداخلي المنشإ وترشيد النفقات العمومية وتبني الخيارات الرشيدة ودعم البحث العلمي والتقني الموجه أساسا نحو التنمية، ستبقى مواقف الفاعلين المؤثرين في العملية التنموية ميالة في الغالب إلى الجمود.
ودور البحث العلمي والأكاديمي أساسي في هذه الدينامية التنموية (مجال تدبير الموارد الطبيعية والطاقية – ضمان الأمن الغذائي – تطوير تقنيات البناء الصديقة للطبيعة – الملائمة مع رهانات الثورة الرقمية – التحكم في رهانات النقل واللوجستيك، …)
فلا يمكن للمغرب تحقيق نمو مستدام لا يقل عن متوسط 4.5 % سنويا على مدى 25 سنة دون الرفع من الاستثمارات في الرأسمال غير المادي وتجويد الاعتمادات العمومية المخصصة للبحث العلمي.
وهو ما يطرح تصورا عقلانيا ومؤطرا للظروف التي ستسمح للمغرب بالتطور إلى مستوى اللحاق المتسارع بالركب الاقتصادي.
إن التطورات التي جاء بها دستور 2011 من آفاق تطوير الجهوية الموسعة وآفاق إبرام اتفاقيات التبادل الحر المعمق والشامل، وخصوصا مع الاتحاد الأوروبي (الذي ينتج كل يومين ونصف مقابل ما ينتجه المغرب في ظرف سنة كاملة !) هما فرصتان تاريخيتان من أجل تطوير الاقتصاد والمجتمع المغربي، وتحمل في ثناياها فرصا استثنائية لتنمية البحث العلمي والأكاديمي وتطوير فعالية الرأسمال المادي والبشري والمؤسساتي.
إن إصلاح قطاع البحث العلمي يتطلب مقاربة جديدة لتدبير الموارد البشرية عبر الاعتماد الفعلي لمفاهيم الكفاءة والأداء والنتيجة كعناصر مركزية في عمليات التوظيف وتدبير الموارد والترقية ضروري. كما يقتضي الأمر مراجعة أنظمة إدارة الجودة الداخلية وتطويرها بهدف تعزيز مراقبة مخرجات الجامعة.
كما يقتضي تدبير الموارد المالية، إقحام الجامعة في منطق التنافسية وإشراك القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي، عوض الاعتماد على ميزانية عمومية ثابتة تختلط فيها الميزانية الفرعية المخصصة للنظافة وصيانة المرافق مع الميزانية الفرعية المخصصة لإنتاج المعارف العلمية، وتلتهم أغلبها مصاريف التسيير.
كما أن إطلاق دينامية الجهوية الموسعة في ارتباطها بالبحث العلمي عبر اللآمركزية النسقية والنقل الحقيقي والتدريجي للسلطات التقريرية والصلاحيات والموارد والإمكانيات المطابقة للمستويات الترابية المناسبة وللجامعات ومؤسسات البحث العلمي على الصعيد الجهوي ورش لا بد من فتحه بجدية ومسؤولية.
في الأخير، لا بد هنا من الإشادة بالعديد من العلماء المغاربة في الفلك والفيزياء والطب وعلم التغذية وغيرها من العلوم، الذين برزوا على الصعيد العالمي، وغالبا بإمكانيات ذاتية، وكان لإنجازاتهم واكتشافاتهم وقع كبير في مجالات بحثهم واشتغالهم. وهو ما يؤكد وجود رصيد بشري هام في المدرسة والجامعة المغربية لا ينقصه إلا التثمين والتشجيع.
فلدينا كفاءات ونوابغ في مجال البحث العلمي في مختلف التخصصات في داخل الوطن وخارجه. عدد هام من العلماء المغاربة ينتجون أبحاثا واختراعات كبرى تستفيد منها مراكز البحث في بلدان أجنبية وشركاتها لتسويق إنتاجاتهم واختراعاتهم.
وقد سبق لجلالة الملك أن استقبل البعض منهم ووشحهم بأوسمة ملكية. فهل تم التفكير في استثمار هذه الكفاءات العالية واستقدامها لتطوير البحث العلمي ببلادنا ليصبح بحثا منتجا لاكتشافات علمية واختراعات ندخل بها عالم اليوم؟ كما فعلت بعض البلدان الأسيوية التي كانت قبل عقود قليلة في نفس وضعنا وأصبحت اليوم ضمن البلدان المتقدمة بفضل تشجيع البحث العلمي و دعم الابتكار.
فهل تم التفكير في توفير بنيات استقبال حقيقية من معاهد ومختبرات وهيئات مختصة حكومية وغير حكومية، لاحتضان هذه الكفاءات والنوابغ وتوفير كل الشروط التحفيزية لعلمائنا وباحثينا و مخترعينا في الخارج وداخل أرض الوطن؟
لدينا كذلك مخترعون مغاربة ينالون جوائز دولية عن اختراعاتهم ويصنفون في مراكز متقدمة دون أن ينتبه إليهم أحد في الداخل، وقد تتلقفهم مراكز بحث وشركات أجنبية. فماذا تقدم بلادنا لمخترعيها من شروط لتطوير البحث والابتكار والمرور لمرحلة الإنتاج والتصنيع والتسويق؟
نحن بحاجة ماسة اليوم، السيد رئيس الحكومة،إلى الانتباه بجد لهذه المسألة، ليس فقط بمنظور تقني والرفع من الميزانية المخصصة للبحث العلمي، بل أساسا بتغيير مقاربتنا للموضوع ليصبح البحث العلمي ودعم الاختراع سياسة عمومية قوية ورافعة أساسية للتنمية وبعد وازن في نموذج التنموي الجديد المنشود.
نحن بحاجة ماسة لمخطط “مغرب البحث العلمي والابتكار”: مخطط طموح له هيئة مركزية لقيادة إستراتيجيته، وبنيات تحتية من معاهد ومختبرات، ووضع خاص لمراكز البحث العلمي بالجامعات وكليات الطب و المستشفيات الجامعية، والبحث الزراعي، ومراكز تابعة لمختلف المعاهد والمؤسسات العمومية والشبه عمومية والخاصة …ليكون الباحث فيها ليس فقط مجرد موظف ورقم تأجير، بل مسلحا بوضع مادي ومعنوي محفز على الإنتاج والاجتهاد والاختراع، ومن أهم التحفيزات المعنوية تحويل البحث والاختراع إلى الإنتاج والتسويق أو استعمال نتائجه في مختلف مناحي الحياة العامة.
وفي الأخير لا بد من القول أن نجاح مشروع وطني كبير للبحث العلمي والابتكار مرتبط تحققه بحل المشكلة الأصل، أي أزمة التعليم في شموليتها.
عذراً التعليقات مغلقة