منذ ايام عزفت عن الكتابة في السياسة ، لا لشيء إلا لأني لم أعد أرى جدوى في ذلك ، مع العلم أن السياسة كالماء و الهواء و الطعام ، لكن مشكلتنا نحن مع السياسة هي أن الكثيرين يتعاطون لها دون الأخذ بعين الإعتبار روحها الذي هو الفكر ، وكل سياسة لا تتاسس على الفكر تبقى مجرد شعارات جوفاء بلا روح ..
وقد يتساءل الكثيرون لماذا عدت إذن للخوض فيها ، الحقيقة أن فكرة هذا المقال راودتني كثيرا ، وقد أجلتها مرارا و تكرارا ، و الآن أرى أن شرط الكتابة في الموضوع قد تحقق بما فيه الكفاية بعد مرور ما يزيد عن خمس سنوات و بعد جلاء الكثير من الغموض الذي يلف الموضوع في بداياته ،والموضوع هو بطبيعة الحال ما كان يسمى لحظة بدايته بالربيع العربي ..
معلوم أن حراك الشرق الأوسط و شمال إفريقيا الذي انطلقت شرارته من تونس ، أثار اهتمام الكثير من المتتبعين ، وانخرط فيه الكثير من القوى بحماس منقطع النظير وبعاطفة جياشة غيبت لحظتها جوانب كثيرة من حقيقة الحدث و آفاقه ….
الآن وبعد أن اتضحت الصورة أكثر فأكثر ، لابد لإستجلاء جوانب المسألة ،العودة إلى البدايات والوقوف عند الشعارات المركزية التي جسدت اللحظة و رسمت أفق الحلم الذي من أجله خرج الآلاف إلى الشوارع من سوريا شرقا إلى المغرب غربا ، وقد كانت الشعارات المرفوعة في ميادين القاهرة و شوارع الرباط هي هي ، تختصر معاناة الشعوب و تصدح بمطلب واحد ووحيد يتمتل في إسقاط أنظمة مستبدة مع المطالبة بالديمقراطية و الدولة الحديثة ، لكن ما أن سقطت الأنظمة التقليدية في تونس و مصر و ليبيا حتى خرج بعبع جديد إسمه دولة الإسلاميين بمختلف تلاوينها مما يطرح أسئلة عشائكة على الذين خرجوا لحظتها للمطالبة بالدولة المدنية …
لا بد إذن لإستجلاء بعض من إشكالات الموضوع الوقوف عند مفهوم الدولة المدنية الحديثة ، وقد لا يختلف الناس على أنها محصلة حراك فكري ثوري تمخض عن حراك فكر الأنوار بأروبا منذ بدايات القرن 16 وبمعنى آخر فالدولة المدنية تعتبر تجليات من تجليات العقل بعد تجسيده في الإجتماع الإنساني ، هذا التجسيد الذي لم يكن وليد الصدفة ، بل حصيلة ثورة فكرية يختصرها الفكر الغربي الحديث في الثورة الكوبيرنيكية التي قوضت أركان الكنيسة وحررت العقل الغربي من دوغما ميتافزيقا القرون الوسطى و إرث الإغريق، تقويض رسم خطوطه الفكرية الأولر ديكارت عبر الكوجيطو الشهير ، ثم كانط الذي أسس للمشروع النقدي في فكر الغرب الذي ما زال يلهم الكثيرين من رواد الفلسفة المعاصرة ، فكان أن تغلغل الفكر النقدي إلى عقر الكنيسة عبر اجتهادات القديس أغسطين و كالفان ومارتن لوثر الذين أسسوا لإصلاح ديني إستوعب فكرة فكرة الإنسان الحر فكانت تلك بدايات الثورات التي قلبت موازين العالم و ألهمت شعوبا كثيرة وكان على رأسها الثورة الفرنسية ..
كان من الطبيعي باستحضار تلك الشروط ، أن يكون النجاح حليف بناء الدولة الحديثة رغم ما رافق ذلك من معاناة ، و رغم ما تمخض عنه بعد ذلك من انزلاق العقل الغربي و خروجه عن خطوط رواده الأوائل الذين كانوا يسعون إلى تحرير الإنسان حيثما وجد من بطش و جبروت الحكم اللاهوتي المستبد باسم السماء …
تلك إشارة لابد منها لفهم بعض من مشكلات الربيع عندنا ، و الحقيقة أن حراك الحرية بدأ مند عصر النهضة مع ثلة من المفكرين السلفيين التنويريين الذين رغم مجهوداتهم لم يتمكنوا من التأسيس للمشروع الحداثي ، لعدة عوامل لا داعي للتفصيل فيها ، مع أنه من الواجب الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية ، فحسب الدكنور نصر حامد أبو زيد فمن عوامل الإخفاق تلك أن فكرة النهضة حاول الإجابة عن أسئلة مطروحة عليه خارجيا ، بمعنى من الغرب بتعبير آخر و أسهل – صدمة الحداثة – و لاشك أن معاناة رواد النهضة إستمرت مع جيل جديد من اللبيراليين كطه حشسين الذي استلهم ديكارت وحاول قراءة الثرات بمنهج ديكارت فتعرض للتكفير لأن سياق ديكارت ليس هو سياق طه حسين ، فالأول كان تعبيرا عن طبقة بورجوازية صاعدة تعتبر حاملا إجتماعيا لمشروعه الفكري بينما طه حسين كان أعزلا و محاصرا بفكر مشايخي و بغوغاء مجتمعية ، وليس غريبا أن تتكرر نفس المأساة مع مفكرين آخرين حسين مروة و فرج فودة نصرحامد أبو زيد و سيد القمني وستطول اللائحة بلا شك …
و استحضارا لهذه الشروط ، هل كان بإمكان الحراك الشرق أوسطي و الشمال إفريقي أن يقود إلى دولة مدنية بالمواصفات المتعارف عليها ؟
أكيد لا، لأن شعار الدولة المدنية لابد له من حامل إجتماعي، يعني طبقة مثقفة و متنورة و فاعلة في المجتمع عبر مختلف التنظيميات السياسية و النقابية و الثقافية وهذا مالا يمكن تحقيقه في شرط ثقافي و سياسي و اجتماعي سمته الوحيدة هي الهجل و التفكير الأسطوري البدائي ..
هذا دون الدخول في تفاصيل أخرى لها ارتباط وثيق بوصايا هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات الذي يعتبر مرجعا تأسست عليه خطط الفوضى الخلاقة التي قامت بتنزيلها أمريكا و التي كانت بدايتها تدمير العراق دولة و شعبا و كفاءات وحضارة ، وقد لا يخامرني شك إذا قلت بأن ما كان يسمى ربيعا لحظتها لا يخرج عن خطط الفوضى الخلاقة لدفع بلدان الشرق الأوسط إلى تدمير نفسها بنفسها بمساندة التيارت الأصولية و دعمها سياسيا و لوجستيكيا في إطار مشروع الحرب بالوكالة الذي انخرطت فيه الظلامية الرجعية لصالح أمريكا و إسرائيل ، أو لم يكن غريبا أن يضغط مرسي على حركة حماس لتكف عن إطلاق صواريخا من غزة على إسرائيل ، فالتزمت حماس بذلك بل أعدمت شخصا أطلق صاروخا بعد تفاهمها مع مرسي ، هذه الواقعة وحدها مليئة بالدلالات ناهيك عن تمدد داعش في العرق و سوريا و ليبيا …
إن من يعادي العقل و التنوير و الدولة المدنية في مناطق الربيع هي أمريكا نفسها ، وقد باث من المؤكد أن يدها امتدت إلى مختلف البلدان لتيسير صعود حكومات رجعية في أجندتها الهادفة إلى خلق شروط إعادة تقسيم هذه الدول بما يتماشى و جشعها الإقتصادي …
و الربيع إما أن يكون ربيع أفكار أو لا يكون …
تصبحون على ديكارت وكانط و هيغل و روسو و مونتيسكيو و نشه و هايدغر و ماركس و غيرهم بلا هادون ماشفت ليكوم شي ربيع و لا هم يحزنون ..
خدمو و لا تكمشو …
…………….الطالبي………….
عذراً التعليقات مغلقة