الاحتجاجات الشعبية بغض النظر عن مضمونها الاجتماعي والاقتصادي هي تمظهر فوقي لعلاقات اجتماعية وصراع اجتماعي يراكم كما ونوعا لتحقيق نوع من التوازن في ميزان القوة داخل المجتمع، وهو صراع على تملك الثروة وكيفية توزيعها بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية ودور الدولة بمختلف أجهزتها ومؤسساتها ورمزيتها الثقافية إليه يرجع الحسم في الحفاظ على التوازنات الاجتماعية والاقتصادية بنهجها لسياسات تروم إلى تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية وتعمل على تحقيق نوع من التوازن في توزيع الثروات التي تنتجها تاريخيا قوى العمل ويستفيد من احتكار قيمته المضافة قوى الرأسمال، وبما أن هذا الأخير (الرأسمال) بطبيعته احتكاري ومستغل ولا يؤمن إلا بالحفاظ على مصالحه المادية والسياسية خاصة داخل البنى السياسية المنغلقة القائمة على الاستبداد والفساد، بحيث الدولة في خدمة السلطة أو بعبارة أدق دولة السلطان في مقابل سلطان الدولة. وبالتالي المؤسسات السياسية خاصة الأحزاب التي لا تستطيع الخروج من الدائرة عمليا حتى وان أنتجت خطابات سياسية وفكرية مناقضة لدولة السلطان ومتبنية مشروع سلطان الدولة (أي الدولة بمفهومها الحديث والمعاصر وهي حالة تاريخية وسياسية تبين واقع المنطقة برمتها فإذا كانت الشعوب الأوربية قد تمكنت من بناء الدولة الحديثة، حيث هي كيان ذاتي وموضوعي مهيكل بمؤسساته السياسية والمدنية والعسكرية في انفصال واضح وفي خضوع تام للقانون الذي يعكس في أليات وضعه السيادة الشعبية بواسطة الالية التي انتجها الفكر الحر وهي الديموقراطية وخاصيتها الاجتماعية والثقافية المواطنة.
فان شعوب منطقتنا مازالت تكابد وتكافح من اجل الانتقال إلى سلطان الدولة وتفكيك بنيات الاستبداد والانتقال من الإرعاء (الرعية) إلى المواطنة” ومن خلال هذه الثنائيات المتناقضة يتضح تعامل ورد فعل الدولة على الاحتجاجات الشعبية فهي لا تراها من خلال المطالب الاجتماعية والاقتصادية و الحقوقية (وهو أمر بسيط بالنسبة لها) ولكن تراها في بعدها السياسي والثقافي والرمزي بكونها مس بهيبة الدولة وسلطانها /قوتها وتهديد لاستقرارها وتشكيك في شرعيتها ومشروعيتها وضرب في لب مقومات وجودها، وخاصة إذا نظرنا إلى الخلفية الاجتماعية لمتزعمي هذه الاحتجاجات فهم من منطق الدولة التقليدي مجموعة من فتيان العامة الخارجين والمتمردين لا ينتمون إلى انساب عريقة متطاولين على خاصّتهم وأولي أمرهم ليست لهم هويات سياسية محددة في” الأحزاب السياسية” يتمتعون بمصداقية وشرعية محلية فاقت كل التوقعات، إضافة إلى الزخم التاريخي للمنطقة التي لم تندمل جروحها بعد جعلت الدولة تكشف عن حقيقتها وطبيعتها القمعية واستعراض مظاهر القوة الإكراهية في رسالة موجهة إلى كل من يعتقد أنه بإمكانه المس بهيبتها وجبروت قوتها وهو الجانب الثابت في رؤيتها لتدبير شؤون رعاياها. ولأن الاحتجاج في عمقه يعني الإرادة في تملك المصير وبوابة الانتقال من الرعية /الإرعاء إلى المواطنة أي الحق والواجب وترسيخ المواطنة يعني بذاته التحلل من ثقافة الإرعاء أي خلخلة اركان الاستبداد الذي يقوم على المقايضة بين الأمن بالخوف والخوف بالأمن وهو السر في ربط الاحتجاج بالفتنة لان ثقافة الاعاء والرعية ترسخت بفعل الزمن وبفعل مؤسسات التنشئة الاجتماعية وبأدلجة الفكر الديني لتبرير واقع الظلم واللاعدل وبالتالي يصبح رفض الظلم جهارا دعوة صريحة إلى الفتنة لان الرعية ليست لذاتها فهي موضوع لسلوك الراعي الذي يرعاها ليس من باب الحق والواجب بل من باب كرمه وإحسانه وجود عطائه فلا حقوق لها وواجبها الطاعة والولاء وهي كما يرى أهل السياسة القدامى كابن قتيّبة يراها “جيفة أمام النسّر” وابن عبد ربه “حصاة” يجرفها السيل ويعتبرها ابن رضوان وابو حمو الزياني وغيرهم “مريضا” يحتاج إلى طبيب وهو راعيها… وبالنسبة لهم العامة ” رأس الفتنة والفساد وإسدال اللجام يعني غياب الأمن والطمأنينة وبالتالي فلا رادّ لها سوى قوة شكيمة السلطان . إنه منطق القوة والغلبة.
والنخبة الحاكمة أو الاوليغارشية الحاكمة ما زالت تؤمن بهذه الرؤية لتدبير الحكم وعملت كل ما بإمكانها من أجل الحفاظ على هذا الكنه للدولة وقاومت بشراسة محاولات التغيير والتحديث بعد الاستقلال. ونهجت استراتيجية متعددة الوسائل والواجهات لإفراغ المؤسسات السياسية والاجتماعية والحقوقية والثقافية التي حملت مشعل تحرير العقل والإنسان. وقد حققت نصرا بينا في ذلك من خلال احتواء النخبة السياسية “وريثة” الحركة الوطنية وقامت بتدجينها إلى درجة التماهي ناسية خطورة هذه الاستراتيجية في القضاء على الوسائط السياسية ذات المصداقية والشرعية وقد بلغ التدجين والتماهي مبلغه حين خرجت لتسفيه الاحتجاجات الشعبية وفي مقدمتها الحراك الشعبي بالحسيمة ومباركة القمع والاعتقالات السياسية في صفوف هذا الحراك الذي يستمد فكره وأهدافه من المرجعيات المؤسسة للحركة الوطنية الديموقراطية والتقدمية. هكذا اخرجوا سيوفهم الخشبية من اغمادها وهم في غشاوة من أمرهم لقطع أوصالهم وأرحامهم الفكرية والسياسية.
إن الاحتجاج الشعبي السلمي في مختلف مناطق المغرب دليل قاطع على نضج ووعي الحركات الاحتجاجية ودليل على القدرة الموضوعية للسياق التاريخي في خلق ديناميات محلية ذات بعد وطني خارج الانماط التنظيمية التقليدية التي عجزت عن استكمال مهام بناء الدولة الوطنية الديموقراطية، دولة المواطنة والحق والقانون والعدالة الاجتماعية.
إن الريف أرياف والحراك حركية قائمة الذات من داخل واقع اقتصادي واجتماعي وثقافي ظالم وغير عادل يتميز باستمرارية منطق الاستبداد والفساد. فحين يقمع ويعتقل بشكل “هوليودي” من خرج ليصرخ بأعلى صوته ولا شيء غير صوته استغاتة ووجعا وحال صرخته تقول “وامعتصماه”. ويكرّم من هو متهم بالاغتصاب فهذا يعكس مدى الانهيار والتعفن الذي وصلت إليه منظومة القيم التي يقوم عليها الخطاب السياسي للدولة الذي يتم ترويجه عبر جوقة من السياسيين والإعلاميين ورجال الدين الذين يشكلون الصوت التبريري للسلوك السياسي للدولة على الرغم من كونهم يتموقعون خارج الدائرة التي تنظر وتخطط لدولة السلطان وهذه النخبة هي عبارة عن شبكة شديدة التعقيد قديمة التشكل مرتبطة بشكل موضوعي محليا واقليميا وجهويا ووطنيا بالإدارة المخزنية المتجدرة في النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي والمجالي المغربي. هذه الادارة المخزنية بتراتبيتها الولائية وباسلوب عملها ما فوق قانوني تشرعن كل شيئ من اجل ضمان الولاء والطاعة مما يشكل أرضية ومجالا خصبا لتجدر بنيات الريع والفساد بكل أنواع.
خلاصة القول أن دولة السلطان بمؤسساتها ومرجعياتها الفكرية والاديلوجية ومنظومة قيمها وجهازها المخزني، إضافة إلى صراع اجنحتها الظاهرة والخفية وتشبتها بإدارة الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي بأساليب تقليدية تقوم على القوة والغلبة والإكراه ومعاداة الحرية بمفهومها الشامل موضوعيا، لن تستطيع الحفاظ على استمراريتها لأن العوامل المتحكمة في ميكانيزمات التغيرات والتحولات الاجتماعية والثقافية لا يمكن التحكم والسيطرة عليها لان المنابع المزودة لها أصبحت كونية عابرة للامم والقارات وملكا مشاعا لكافة الشعوب إنها حتمية تاريخية تفرض على دولة السلطان الانخراط في عملية هدم وإعادة بناء في اتجاه الدولة الحديثة بنظام سياسي عصري يمتلك مقومات القدرة على تجديد نفسه على أساس منظومة قيم تؤمن بالحرية والكرامة والحق والقانون والعدالة الاجتماعية وبأجهزة ومؤسسات تبدع من اجل الرفاه الاجتماعي لمواطنيها.
إن التاريخ المعاصر للشعب المغربي حافل بالدروس والعبر، فمن الحركة الوطنية التي جعلت رمز وحدة كفاحها ونضالها محمد الخامس، وبعدها قادت النضال الجماهيري لبناء الدولة الديموقراطية وقدمت كل تضحيات الجسام من اجل الحرية والكرامة وتصدت بحزم وطني للمجموعة الانقلابية خلال السبعينيات من القرن الماضي، وهي المجموعة التي شكلت الأداة القمعية لنظام الحكم في مواجهة الحركة الوطنية، وهي نفسها التي أمنت الانتقال السلس للحكم خلال صيف 1998. إن الغاية من هذا السرد الكرونولوجي هو إعطاء الدليل التاريخي المادي القاطع على كون الحركات المناضلة المتشبعة بالفكر الوطني التحرري والقيم الإنسانية السامية كانت دائما وما تزال وستبقى
الوعاء الحقيقي للهوية الوطنية الضامنة لوحدة الشعب المغربي في تعدده الخلاق. وفي هذا الإطار يتموقع الزخم النضالي الشعبي بأقاليم الريف وبقيادات شبابية لا يمكن إلا الاعتزاز بمستوى وعيها وتحضرها النضالي السلمي، وهي أمال الحركة الجماهيرية جنوبا وشمالا وشرقا وغربا وهي الصخرة التي تكسرت على صلابتها إدعاءات المهرولين للارتماء في أحضان دولة السلطان. إن التاريخ يؤكد أن الخوف على استقرار الدولة والنظام والمجتمع يأتي دائما من داخل دوائر الدولة والنظام، ويؤكد كذلك أن الضامن للاستقرار كان دائما من خارجها. وبالتالي فإن الزفزافي أو المجاوي وكافة رفاقهم هم عوامل استقرار. واعتقالهم هو محاولة يائسة لاغتيال المستقبل ومحاولة يائسة لاغتيال الحلم والأمل وجيل جديد من مناضلي هذا الشعب المعطاء.
بقلم يوسف مكوري
عذراً التعليقات مغلقة