في غضون هذا الأسبوع، بداية شهر مارس؛ طرحت إلى السوق الفنية المغربية، عدة ألبومات وأغاني تم تصويرها ونشرها بطريقة “فيديو كليب”، من قبل “فنانين” مغاربة، وخلقت نوعا من النقاش والمتابعة والتفاعل على صفحات الويب والتواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية.
غير أن، وكما هو الحال دائما في بلدنا؛ تم التركيز بشكل كبير جدا على الفنانين الذين طرحوا أغانييهم بالدارجة، العربية العامية، بمختلف ضروب الفن المنتشرة كالشعبي وغيره. وتم تهميش بالكامل، و”كما هو الحال دائما” الفنانين الأمازيغ، وأخص بالذكر الألبوم الجديد لمجموعة “أودادن”، الذي تم طرحه على القناة الخاصة لرئيس المجموعة المايسترو “عبدالله الفوى” ب”اليوتيب” يوم 3 مارس الجاري. وهو تقريبا تاريخ تزامن مع طرح 3 فنانين بالدارجة ” العربية العامية” لأغنياتهم الجديدة التي صوروها بالفيديو الكليب.
واحد من هؤلاء الثلاثة، شاب حديث جدا في الساحة الفنية المغربية، وبالكاد خرج من السجن في فرنسا، نقلت مواقع إخبارية أن أغنيته تابعها على قناته الخاصة عددا كبيرا تجاوز المليون في اقل من ثلاثة أيام. وهؤلاء الفنانين الثلاثة، وخاصة إثنان منهم، وحتى قبل خروج أعمالهم الفنية إلى حضرة الجمهور، خصصت لهم دعاية رهيبة ومميزة وكبيرة جدا عبر مختلف الأوساط الإعلامية ووسائل الخبر والدعاية الجماهيرية، كالإذاعات الخاصة والعمومية، والمواقع الإخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي والجرائد “الوطنية” وغيرها، مثلا (في إحدى الإذاعات الخاصة خلال برنامج فني يبث كل صباح تذكر المذيعة المستمعين بأن الفنان الفلاني سيطرح أغنية جديدة أكثر من 10 مرات في أقل من ساعة ونصف).
ولا أحد، نهائيا؛ تحدث عن الألبوم الجديد لمجموعة “أودادن” الامازيغية.
ربما يعتقد البعض، أن هذا الموضوع، هامشي، وتحصيل حاصل، مادام أن الأذواق لا تناقش، وأن عصرنا هذا هو عصر الحداثة، حيث هذا الجيل له ذوقه الخاص، ولا يمكن بالبث والمطلق أن نفرض على الجمهور نوعا من الفن أو نوعا من الموسيقى. والمسألة حرية واختيارات شخصية.. هذا خطأ. بل هو خطأ كبير.
والحال أننا أمام “هيمنة ثقافية”، وهو المفهوم الذي نحته المفكر الايطالي أونطونيو غرامشي، حين اعتبر أن الرسمالية لا تمتلك فقط، القوة والسلطة والمال، وإنما تسعى أيضا الى بسط نفوذها عن طريق “هيمنة ثقافية” تستحوذ فيها على مجموعة من القيم وتسعى على تسييدها وفرضها بأساليب ناعمة.
هكذا نجد أنفسنا في المغرب خلال الآونة الاخيرة أمام فن مصطنع، أو إزاء صناعة الذوق، تم فرضه على الجميع، وفق مسار طويل ومتشابك، عبر الأسس الإيديولوجية المتينة التي تشتغل بها الدولة كالتعليم والإعلام ومؤسسات الثقافة وغيرها.( مغني طرح مؤخرا فيديو كليب جديد لاق استهجان عددا كبيرا من الذين شاهدوه، حصل على منحة مالية مهمة من وزارة الثقافة المغربية).
متى بدأ ذاك المسار في التشكل ؟ وكيف ولماذا ؟ هذه الأسئلة وغيرها هي التي تستدعي الإجابة. لأن الدولة لم تكن بعيدة في يوم من الأيام عن توجيه الذوق الموسيقي للمغاربة. الدولة الرسمية منذ سنة 56 كان لها جوقها الوطني، وكان لها طربها الرسمي، الذي يتجلى في الطرب الأندلسي والملحون، حيث كان يأتي بعد القرآن والنشيد الوطني في بداية الارسال على التلفزيون المغربي لعقود من الزمن، إلى درجة أن معظم المغاربة يعتقدون أن الطرب الأندلسي مثله مثل النشيد الوطني، أي يعبر عن رسمية الدولة.
لماذا لم يحظ مصطفى أوكيل أو أحوزار أو ازنزارن أو أرشاش أو خالد إزري أو ميميون الوردي، بنفس الاهتمام والحق في الشهرة والإشهار والاعلام الوطني، إن كان فعلا وطنيا، بالقدر نفسه، الذي يحظى به الفنانون الذين يستعملون الدارجة العامية، والذين يستفيدون من الإشهار والامتيازات المادية والمعنوية كالرخص والكريمات والأوسمة وغيرها….هل هم خارج الدولة؟ طبعا لا. هم مغاربة ولكن غير محسوبين على الدولة المركزية. هم فنانون مهما بلغوا من درجات الابداع والرقي الفني والموهبة، إلا أنهم يمثلون فقط هوامش بعيدة من مركز الدولة وأطرافها.
فالمشكل إذن مرتبط بطبيعة الدولة بالمغرب، بأيديولوجيتها، بنشأتها ومسارها، وبمواقفها السياسية تجاه الامازيغية تحديدا. وهذا نقاش يطرح أسئلة حارقة وجوهرية حول العديد من المفاهيم، على سبيل المثال، لا الحصر: مفهوم “الثقافة الوطنية” “الاغنية الوطنية” الأغنية المغربية” . وما يثير الدهشة والاستغراب، أن “الثقافة الوطنية” فالمغرب يقصد بها الثقافة المنطوقة بالعربية فقط، والاغنية المغربية مثلا المقصود بها جنس ونوع من الموسيقى والغناء المنطوق بالعربية، الفصحى والدارجة، ولا يدخل في إطاره الفن الامازيغي…
إذن قضية الفن والثقافة في المغرب، مرتبطة أشد الارتباط بالدولة، أي الدولة المركزية اليعقوبية التي تم تأسيسها سنة 1956، وعملت على تمركز كل الموراد والقرارات ووسائل الانتاج والإدارات والسياسات في هرم واحد وداخل نطاق ترابي محدود. إنه مسار من الجمع والتوحيد تم على حساب اللغة والثقافة الامازيغيتين، وقام(هذا المسار) بتذويبها في قالب منمط، بدأ بالمبادئ الأربعة في التعليم منذ سنة 1956، وكان على رأسها مبدأ التعريب…وجعل اللغة العربية لغة رسمية وحيدة للدولة، في إطار ما سمي بالمغربة، التي دفع بها ما يسمى أيضا بالوطنيين لمحاربة اللغة الفرنسية، لغة المستعمر، فبقيت الفرنسية حية تتمدد بعد 60 سنة وتقهقرت الامازيغية تصارع الموت..هكذا صنعت الدولة عن طريق اللغة الرسمية، ما يسميه ” موريس هالبفاكس” بالبؤرة المركزية للقيم الثقافية”، حيث تتمركز كل الموارد الثقافية والرأسمال الثقافي للمجتمع في حيز مركزي متحكم فيه.
وأخطر شيء حدث في هذا المسار، حين تسلل التعريب إلى أدوات إضفاء المشروعية السياسية للدولة لما يسمى بالوحدة الوطنية، وتم إقحام الامازيغية عنوة في صف التفرقة والتشتت والنزعات الانفصالية…وكل هذا ينعكس على الثقافة والفنون كما هو الشأن في الاقتصاد والسياسة والموارد والثروات في ظل دولة مركزية بيروقراطية، ووفق هذا الاساس، فإن الثقافة المشروعة هي الثقافة التي تريدها الدولة وتشجعها وتضمنها وتقويها عن طريق مؤسساتها وآليات اشتغالها. وتقدمها على أساس ما يخدم مصالحها، وأنها ثقافة في متناول الجميع، إنها ثقافة كلية جامعة، تتماهى مع صورة الدولة، يجب أن يحصل عليها الإجماع. الاجماع الذي تسهر عليه الدولة ويؤرقها، وهنا نفهم ما لمقصود بمفهوم “الثقافة الوطنية”. وأتحدث عن الثقافة لأنها شمولية تضم مختلف الفنون وأشكال التعبير..
ولنفهم ما يحصل حاليا في المغرب، في الترويج المبالغ فيه لنوع من” الفن”، في اعتقادي الشخصي، يجب تحليله تحليلا علميا، وليس الأمر كما يعتقد البعض أنه مسألة هامشية، ونزقية، وإنما هي قضية تخفي الكثير من الأسرار قد تفيد الباحثين الذين تشغلهم قضايا بحثية ومعرفية تخص مصير المجتمع المغربي.
السوسيولوجي الفرنسي الراحل “بيار بورديو” في كتابه اللغة والسلطة، والمتخصص في شرح كل أشكال العنف الرمزي يعتبر أن :
“الثقافة إحدى أعظم أدوات السيطرة”.
عذراً التعليقات مغلقة