دور الديانات التوحيدية والحضارات الإنسانية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان

الوطن الأن26 يوليو 2013آخر تحديث :
دور الديانات التوحيدية والحضارات الإنسانية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان
ذ : محمــد لمرابطـــــي

من بين أهم القضايا الراهنة والمعاصرة التي أصبحت تمثل في المجتمعات الإسلامية العربية والمغاربية موضوعا يكتسي أبعادا لحديث ذو شجون لا يخلو من السجالات الفكرية المتسمة بالعمق وبالعنف أحيانا، تأتي قضية حقوق الإنسان وتقاطعاتها وتجاذباتها مع الأديان بمفهومها الشامل، ويحدث هذا في الوقت الذي ينظر فيه الغرب الأوروبي بنظرة مطلقة شبه أحادية إلى نفسه على أنه المصدر الأول والباعث الحقيقي لفكرة تاصيل وتجذير المبادئ المرتبطة بمنظومة حقوق الإنسان، والحقيقة أن الأفكار الحقوقية وقيمها إنما هي منظومة عالمية جاءت ضمن قواعد قانونية شاملة تندرج تحتها عددا من الثقافات والديانات والحضارات الإنسانية، كما أن السياق التاريخي لمنظومة حقوق الإنسان يوضح مساهمة أغلب شعوب الأرض في صياغة هذه المبادئ .

1 – حقوق الإنسان في ضوء النظريات والمعتقدات القديمة :

لقد تأثرت المسيرة التاريخية لحقوق الإنسان بالأعراف والتقاليد الاجتماعية والتيارات الفكرية والمذاهب الفلسفية إضافة إلى الأحداث السياسية، مما جعل بعض الباحثين في علم حقوق الإنسان يحصرها في خمسة مراحل أساسية، هي : مرحلة الأعراف، مرحلة القوانين المكتوبة، مرحلة الشرائع السماوية، مرحلة الدساتير، مرحلة الإعلانات والمواثيق والاتفاقيات الدولية، لذلك كانت لعدد من الحضارات الشرقية القديمة توجهات فكرية نحو حقوق الإنسان ممتزجة بتعاليم معتقداتها، مثل الحضارات الصينية والفارسية والهندية، ففي الصين اشتهرت حكمة ” كونفوشيوس ” بتمجيد قيم العدل والإخاء والأمن والسلام بين البشر، وعرف ” كونفوشيوس” الإنسان المثالي الذي سماه ” السيد المحترم ” بأنه ” ليس هو الشخص الذي يولد نبيلا لانتماء أسرته إلى الأشراف، ولكنه الكريم خلقا، الصادق في عبادته، الذي يحترم نفسه ويحترم غيره ويتقيد في سلوكه وتعامله “، ومن حكمه في قواعد السلوك ” القاعدة الذهبية ” التي أجملها في هذه المقولة : ” لا تعامل الآخرين بما لا ترغب في التعامل به مع نفسك ” .
أما التعاليم الهندوسية بخصوص الحقوق الإنسانية فقد تم استمدادها من النصوص الدينية المنسوبة إلى أقوال الإله الهندوسي ” براهما “، وتأثرت بمذهبه في التفريق بين الإنسان على حسب خلقه وأصله الاجتماعي، آخذة بذلك صبغة الطبقية والتميز الطبقي، ومن هنا لم تكن حقوق الإنسان بينها متساوية، وقمنا بذكرها لإثارة الانتباه إلى مساهمة الهندوسية في التشريع للحقوق الطبقية وليس الحقوق الإنسانية، وعلى العكس من الهندوسية ظهرت ” البوذية ” كحركة إصلاح أو ثورة على نظام الطبقات الذي جاءت به الهندوسية، إذ ركزت تعاليم ” بوذا ” على قيم العدل والمساواة، ويذكر أن لبوذا وصايا عشرا وخمسة تعاليم، من بينها تحريم القتل، والكف عن إيذاء كل حي إنسانا أوحيوانا أونباتا، وقول الحقيقة، وفي منطقة فارس كانت ” الزرادشتية ” وهي معتقد جاء به الحكيم الفارسي ” زرادشت ” الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد وقام على ثنائية الخير والشر وصراعهما، والاعتقاد بأن الخير يتغلب في النهاية على الشر، وفي نظره يتمثل الشر في الجهل والفقر والظلم والبغضاء، وفي المقابل رتب المتعلم والعالم في قمة طبقات المجتمع، ودعا إلى مجتمع يسوده العدل والإنصاف .

2 – الديانات التوحيدية وحقوق الإنسان :

ولنختم الحديث عن إسهام المعتقدات والحضارات القديمة في تاصيل قواعد الأخلاق وقيم الخير التي هي أسس حقوق الإنسان بما قدمته الديانات الإبراهيمية الموحدة الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام في ترسيخ القيم الإنسانية، كما أنها تلتقي حول رسالة تحرير الفرد والمجتمع من العبودية وتخليصهما من الجهل وحمايتهما من الظلم، وعلى تكليف الله الإنسان بمهمة استخلافه على الأرض لإعمارها وإصلاحها، غير أن هناك توجهين يختلف كل واحد منهما عن الآخر بخصوص المقدار الحقوقي الذي يستضمره كل دين من هذه الديانات على حدة :

فالتوجه الأول ينص على أن الديانات التوحيدية تفاوتت في تحديد مضامين الحقوق الإنسانية وتفصيل أحكامها، فما جاء عن ذلك في اليهودية أقل مما جاء في المسيحية، وما جاءت به هذه أقل مما حفل به الإسلام من تفاصيل ودقائق، وقد يكون مرد ذلك حسب أصحاب هذا التوجه إلى وتيرة تطور الإنسانية التي تسارعت بشكل تصاعدي من عهد موسى مرورا بعهد عيسى وصولا إلى عهد محمد عليهم السلام .

والتوجه الثاني ينتهي إلى القول أن كل واحد من الديانات الثلاثة يحاول أن يضم إلى نفسه دون الآخرين كل الامتيازات الأخلاقية والقانونية والوظائف المعرفية المرتبطة بموضوع حقوق الإنسان، فأتباع كل دين يتسابقون إلى التغني بحقوق الإنسان، وأن دينهم قد اكتشفها واعترف بها قبل غيره أو أكثر من غيره، وهكذا نجد اليهود والمسيحيين والمسلمين يزايدون على بعضهم بعضا فيما يخص منشأ حقوق الإنسان واحترام حقوق الإنسان، مما يستلزم حسب هذا التوجه عدم الوقوع في مثل هذه المزايدات والمغالطات التاريخية، لأن البذرة الأساسية لحقوق الإنسان موجودة في كل هذه الأديان وليس في دين واحد فقط، فأصلها الإبراهيمي الواحد يجعلها متشابهة أكثر مما يظن الأتباع .

وفي تقديري، إذا أردنا التطرق لحقوق الإنسان في الديانات السماوية، يجب أولا التمييز بين الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام كأديان ساهمت في تأسيس الوعي بحرية الإنسان وحقه في العيش الكريم، وتحريره من كل القيود، حيث أن هذه الأديان ذات المصدر الواحد، جعلت الإنسان هو مدار الكون ومناط التكريم المتعلق بصفته الإنسانية، مع ضرورة التفريق من جانب آخر بين تاريخ تطبيق هذه الديانات على حياة المجتمعات، وما رافقها من تطرف وإجحاف في حق المخالفين في الرأي والمعتقد والمذهب، وقد حدث هذا حتى داخل الدين الواحد، كما أن الفرق بين اليهودية والمسيحية بخصوص الحمولات الإنسانية ذات الطابع الحقوقي سيكون من صنع أتباعهما وليس من صلبهما، أما علاقة الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية، فقد حددت بنص القرآن الكريم وليس كما يفهمها المفسرون والدعاة الواقعون تحت تأثير الصراع التاريخي، السياسي والعسكري، الذي عرفه تاريخ الديانات الثلاثة، علاقة تحكمها شجرة نسب واحد : جذعها المشترك إبراهيم الخليل، شيخ الأنبياء، وفروعها الأنبياء المنحدرون من صلبه، ولذلك لا غرابة إذا وجدنا أن الديانات الثلاثة في جوهرها وليس في التحريفات التي تعرضت لها أصولها عبر التاريخ، تتساوى في درجة تمثلها لقيم حقوق الإنسان .

3 – دور النظريات الغربية والدين في التأسيس للمنظومة الحقوقية :

في هذا السياق الفكري، وفي إطار النقاش المتواصل والأفكار الجديدة في الموضوع، ثمة دراسات صدرت خلال السنوات الأخيرة، تتساءل لماذا أدت فكرة ” حالة الطبيعة ” وفكرة ” العقد الاجتماعي ” إلى تبلور مفهوم حقوق الإنسان في الفكر الأوروبي ولم تؤد الأفكار التي توازنهما في الثقافات الأخرى إلى نفس النتيجة، مثل فكرة ” الفطرة ” وفكرة ” الميثاق ” اللتين نجدهما في عدد من الديانات ومنها الإسلام ؟

للإجابة عن هذا السؤال، يمكننا القول أن فلاسفة أوروبا تحدثوا عن ” حالة الطبيعة ” و” العقد الاجتماعي ” بوصفهما مجرد فرضيتين، وليس باعتبارهما حقيقتين واقعيتين، وهذا ما مكنهم من الوصول إلى النتائج التي يتوخونها منهما بمجرد إجراء تعديل ” بسيط ” في مضمونهما، في حين أن فكرة ” الفطرة ” ومفهوم ” الميثاق ” تم تقريرهما كحقيقتين، طرحتا لذاتهما وليس كمقدمات من أجل نتائج ما، ولذلك لم يتوصل أحد بهما، لا قديما ولا حديثا، إلى مفهوم حقوق الإنسان بمعناه المعاصر، غير أن الدعوة إلى اعتماد العقل وترك التقليد والاهتداء بآيات الكون ( أي نظام الطبيعة ) تقترن في الخطاب القرآني بالدعوة إلى الرجوع إلى ” الفطرة ” : فالإسلام” دين الفطرة “، و ” الفطرة ” في الخطاب القرآني مفهوم يكاد يكون مطابقا لمفهوم ” حالة الطبيعة “، ففي القرآن الكريم : ” فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها….. “، فهل يتناقض هذا الموقف في شيئ مع الموقف الإسلامي المؤسس لحقوق الإنسان على العقل والفطرة .

ولذلك فإن فلاسفة القرن الثامن عشر في أوروبا كانوا بلجوئهم إلى فكرة ” حالة الطبيعة ” وفرضية “العقد الاجتماعي ” حسب الأستاذ محمد عابد الجابري ” إنما كانوا يؤسسون ثورة، هي الثورة المعروفة بالثورة البرجوازية، ثورة الطبقة المتوسطة، أما الدعوة الإسلامية في بدايتها، فهي بتوظيفها مفهوم الفطرة، كانت بدورها تؤسس ثورة “المستضعفين ” على ” المستكبرين” ثورة ” التوحيد ” على ” الشرك “، ثورة الارتباط بالله والتحرر من كل القيود “، والقول بأن ” حقوق الإنسان ” في الفكر الأوروبي الحديث تصدر عن ” العلمانية ” بينما تصدر حقوق الإنسان في الإسلام والرسالات التوحيدية عن الدين، قول يحتاج إلى فحص، وأول ما يجب فحصه هومصطلح العلمانية نفسه، ذلك أن فلاسفة أوروبا الذين حملوا مشعل ” التنوير ” والذين عملوا على تأسيس ” حقوق الإنسان ” في الفكر الحديث، لم يقفوا ضد الدين كدين، إنما وقفوا ضد نوع الممارسة الدينية التي كانت تقوم بها الكنيسة، لذلك احتفظ الأوروبيون بالدين وأزاحوا تقاليد الكنيسة وسلطتها وأحلوا محلها العقل وسلطته .

4 – هل من تعارض بين تصور الغرب والدين بشأن حقوق الإنسان ؟

وارتباطا بنفس الموضوع يمكن القول أن حقوق الإنسان بمعناها الغربي منظومة وضعية وبشرية وبالتالي فهي نسبية وطارئة، وقد بلغ عدد الحقوق في تطورها من خلال العهود والمواثيق الدولية مايزيد عن 150 حقا، في حين توسم المنظومة الحقوقية الإسلامية في نظر الكثير من الدارسين الإسلاميين بأنها إلهية غير بشرية، وهو ما يخول اعتبارها واجبات لا حقوقا فقط، فهي في المنظور الإسلامي أقرب ما تكون إلى التكاليف الشرعية منها إلى العبادات، إذ أنها ليست مجرد مصالح لجماعات وفئات كما في المنظور الغربي، وما عدا هذا الخلاف الجوهري، فإن المنظومتين متطابقتان بل متنافستان على احتواء أكبر قدر ممكن من الحقوق، وقد أورد البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان المعلن عنه في مقر اليونسكو
بباريس سنة 1981 أربعا وعشرين حقا من حقوق الإنسان الأساسية معززة بنصوص من القرآن والسنة النبوية .

وفي هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أن المنظومة الغربية لاتتفق كلها على الأصل الوضعي والبشري للحقوق، فإعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1776 الذي يعتبر الوثيقة الأولى لحقوق الإنسان أورد في مقدمته الصيغة التالية : ” كل الناس خلقوا متساوين وقد زودوا من طرف الخالق ببعض الحقوق التي لا يمكن سلبها، ومن بينها حق الحياة والحرية والسعادة “، ومن هنا يمكن القول بأن هذا النص الغربي الأساسي حول حقوق الإنسان لا يتعارض مع التصور الإسلامي الذي يؤكد أن الحقوق البشرية منحة إلهية، أما النص الذي دشن علمنة حقوق الإنسان وغيب بالمرة التصورات الدينية فهو الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 ، أي بعد النص الأمريكي بثلاث عشرة سنة، بحيث عمل هذا الإعلان عن قصد استبعاد أي إشارة إلى المصدر الديني للحقوق البشرية، وقد يكون السبب في ذلك هو طبيعة الصراع السياسي الذي يعد أحد أطرافه هو الكنيسة ورجال الدين المتحالفين مع الإقطاع والسلطة الملكية آنذاك في فرنسا، مع الإرث الفكري المتمثل في فلسفة الأنوار بنزعتها الإنسانية وتوجهها العقلاني المتمخض عن الثورة الفرنسية .

نعم بكل تأكيد، ونظرا لتقاطع حديث الأديان وحقوق الإنسان في ظل الأزمات الراهنة المتعاقبة، فإن إشكاليات قضايا حقوق الإنسان حتما أصبحت في حاجة إلى دعم من الخطاب الديني خاصة المتنور والمتفتح، الإسلامي منه والمسيحي واليهودي بشكل عام، لاسيما في ظل الحضارة الإنسانية الواحدة التي بات العالم يعيشها ولكن في إطار عام تسوده حضارات وثقافات إنسانية يطبعها التعدد والاختلاف، باعتبار هذا الأخير واقعا معاشا يساهم في نقلنا من مراحل التصادم والفراق إلى جوهر التعايش والتلاقي والاتفاق، في إطار من حضارة السلام وقانون المحبة .

ملحوظة : المداخلة الكاملة التي تقدمت بها مساء يوم الثلاثاء 16 يوليوز 2013 بدارالثقافة الأمير مولاي الحسن بالحسيمة .

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة