أثارت التصريحات الأخيرة المثيرة للجدل التي أدلى بها ماجد فرج رئيس المخابرات العامة الفلسطينية، موجة عارمة من الانتقادات العنيفة وردود الفعل القاسية الناقدة والمستنكرة، إذ اعترف أن أجهزته الأمنية تمكنت منذ بداية الانتفاضة من إحباط أكثر من مائتي عملية خطط لها شبان ونشطاء فلسطينيون، وأنه اعتقل على خلفيتها أكثر من مائة فلسطيني من مختلف مدن وبلدات الضفة الغربية، وأن المخابرات الإسرائيلية تعرف ما قامت به المخابرات الفلسطينية، ولولاها لوقعت عمليات أكثر عنفاً وأشد ضرراً، وما كان للإجراءات الأمنية الإسرائيلية أن تمنعها أو تكتشفها، وما زالت الجهود الفلسطينية تبذل لوقف التدهور العام في المناطق، ولمنع أي عملياتٍ جديدة من الممكن أن يخطط لتنفيذها.
لاقت تصريحات فرج انتقاداتٍ واسعة، وحظيت بتعليقاتٍ كثيرة، أغلبها غاضبة وصاخبة ولاذعة وقاسية، فوصفها البعض بالوقحة والجريئة، والغريبة والعجيبة، واعتبروها تحدياً سافراً لمشاعر الفلسطينيين خاصةً في ظل الانتفاضة الشعبية، التي يقدمون فيها الأرواح ويبذلون الدماء، ويخوضون فيها مواجهةً قاسية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي لا تتورع عن ملاحقتهم وقتلهم، واعتقالهم والتضييق عليهم، فجاء رئيس المخابرات العامة الفلسطينية يؤكد أن هذه الإجراءات التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية إنما تتم بعلمه وبالتنسيق معه، وهو الذي يقدم لهم المعلومات وييسر عملهم على الأرض وبين المواطنين الفلسطينيين.
في حين استغربها بعض الإسرائيليين والأمريكيين وغيرهم، إذ اعتبروا أن هذه التصريحات تضر بالسلطة الفلسطينية، وتضعفها أمام شعبها، وتعريها أمام مواطنيها، وقد تؤدي إلى انقلاب بعض العاملين في الأجهزة الأمنية الفلسطينية على قيادتهم، إذ لا يروق هذا التنسيق الأمني لكثيرٍ من الفلسطينيين، الذين يعتبرونه خيانةً وتفريطاً، وتواطؤاً وعمالة، ولعل بعضهم يقر بهذه العلاقة ويعترف بها، ويساهم فيها ويتوسط بين أطرافها، ولكنهم يستغربون توقيتها وظرفها، فلا الوقت يناسب الإعلان عنها، ولا الظرف العام يساعد في الدفاع عنها والتأكيد عليها، رغم أنها موجودة شكلاً ومضموناً، ونصاً وتطبيقاً.
يرى بعض الإسرائيليين المطلعين على بواطن الأمور وحقائق الأشياء، أن السلطة الفلسطينية لا تؤدي خدمات إلى الحكومة الإسرائيلية، وإن كانت تقبض ثمن هذه الخدمات، وهو وجودها وبقاؤها، وامتيازاتها وصلاحياتها، والتسهيلات الممنوحة لها والحصانة التي تتمتع بها، وإنما تقوم بخدمة نفسها أولاً، وتحافظ بالتنسيق الأمني على وجودها أساساً، فهي أكثر تضرراً من العنف والأحداث الجارية والانتفاضة المتصاعدة من الجانب الإسرائيلي، الذي هو متضررٌ أيضاً، ولكن بنسبةٍ أقل.
إذ أن هذه الأحداث لا تهدد بزوال إسرائيل، ولكنها قد تهدد بزوال السلطة الفلسطينية، التي لا تستطيع الصمود أمام محاولة انقلابٍ جديدةٍ عليها كما حدث معها في غزة صيف 2007، فالذي يمنع الانقلاب عليها، ويحصن وجودها ويثبتها على الأرض، إنما هو التنسيق الأمني الذي ييسر على الجيش الإسرائيلي القيام بمهامٍ سريعةٍ وفاعلة في الضفة الغربية ضد أهدافٍ معادية لكليهما على السواء.
يرفض الإسرائيليون أن تقوم السلطة ببيع جهودها لهم، والمطالبة بثمنٍ وأجرٍ على ما تقوم به، إذ لا ينبغي عليها ألا تطالب بأجرٍ وبدلٍ على ما تقوم به وحسب، بل إن عليها أن تشكر الجيش الإسرائيلي ومخابراته، الذي يحفظ وجودهم، ويبقي على نفوذهم، وإلا تمكن منهم منافسوهم وانقلبوا عليهم، وهم على ذلك قادرين وله ضامنين، وعندهم على الأرض إمكانياتٌ وقدراتٌ تؤهلهم لتحقيق ما يريدون.
يستنكر بعض الإسرائيليين وخصوصاً اليساريين منهم، إصرار السلطة الفلسطينية على التمسك بالتنسيق الأمني المهين والمذل، ويرون أنه معيبٌ بحقها، ومخجلٌ لها أمام شعبها، فقد كتبت زهافا غلؤون رئيسة حركة ميريتس الصهيونية “نتنياهو يريد أن يقول من خلال سياساته في الضفة الغربية أن التحقير فقط ينتظر المعتدلين من الفلسطينيين، لذا لا يتردد في أن يبصق على عباس في كل فرصة ممكنة”.
ويقول الجنرال شاؤول أرئيلي القائد الأسبق لقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وأحد منظري معسكر السلام الصهيوني “إن إصرار عباس على التعاون الأمني مع إسرائيل، لم يسفر إلا عن مصادرة مزيد من الأراضي الفلسطينية وتهويدها”، وأن “نتنياهو جعل من عباس أضحوكة في نظر أبناء شعبه، فبدلاً من أن يكافئه على ضبط الأوضاع الأمنية فإنه يعاقبه بمصادرة أراضي الضفة”.
ويقول يوسي ميلمان، معلق الشؤون الاستخبارية في صحيفة معاريف “إن إسرائيل معنية بتكريس مكانة السلطة ككلب حراسة يلتزم بتعليمات إسرائيل، التي تجد نفسها في حلٍ من تقديم أية تنازلات”.
ويؤكد المحلل السياسي حنان كريستال ذو التوجهات اليسارية، “أن محصلة التعاون الأمني الذي يعكف عليه عباس مع إسرائيل ستكون دوماً صفر بالنسبة للفلسطينيين، ولو قدم عباس رؤوس قادة حماس على طبق من ذهب لنتنياهو فلن يوقف الاستيطان ولن يسمح بإقامة دولة فلسطينية”.
الإسرائيليون في أمس الحاجة إلى هذا التنسيق الأمني، فهو أهم ما أنتجته اتفاقية أوسلو، وأول ما تم الالتزام به والتأكيد عليه، ولعله سيكون آخر ما سيتم التخلي عنه، فهو عماد الاتفاقية وأساسها، وهو مبرر وجود السلطة الفلسطينية وضامن بقائها، وبدونه فإن وجودها مشكوكٌ فيه، وبقاءها لا لزوم له، ولعل المقرر والموجه في هذا الملف غير وطني، إذ أن السلطة الفلسطينية لا تملك قرار الرفض والاعتراض، إنما عليها الطاعة والقبول، والإذعان والاستسلام، وإلا فلا مكان لها ولا وجود لاسمها، ولا امتيازات لقياداتها، ولا حصانةً لرجالها.
رغم حاجة الإسرائيليين الماسة إلى التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، إلا أنهم أنفسهم ينظرون إليه من الجانب الفلسطيني على أنه تبعية وانقياد، وعمالة وارتباط، ويشعرون بأنه مهمة وضيعة وخسيسة، ومخجلة ودنيئة، ولا بقبل بها عاقل ولا يوافق عليها وطني، ومع ذلك فإنهم يصرون عليها، ويحرصون على بقائها، ويحذرون من مغبة تجميدها أو التخلي عنها، ويربطون كل شئٍ بها، فلا مساعداتٍ بدونها، ولا تسهيلاتٍ في ظل غيابها، فهي المهمة الأساس، أو هي الأكثر قدسية على رأي من قال “أن التنسيق الأمني مقدس”.
بيروت في 24/1/2016
عذراً التعليقات مغلقة