كانت للمملكة العربية السعودية دوما مكانة خاصة في نفوس المسلمين، فهي من تتشرف بحماية الحرمين، وهي من يشرف على رعاية الركن الخامس من أركان الإسلام، وكان لها دور لا يستهان به في العلاقات الدولية، بالنظر لاختزانها لأكبر احتياطي للبترول، ولقوتها المالية، ولرصيدها في العلاقات العامة وأدوارها الرائدة. كانت سياستها عاملا من عوامل التهدئة، ونُظر إليها في دول الخليج باعتبارها الأخ الأكبر، ولم تبخل في أن تكون في أطراف أخرى من العالم العربي والإسلامي عامل تهدئة ومصالحة ودعم.
ومن الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى المملكة العربية السعودية، ترقب تطورها وترصد ما يعتمل فيها، بالنظر لهذه المكانة وهذا الدور، إلا أن السياسة الحالية للمملكة العربية السعودية أبعد ما تكون عن القواعد المؤسسة لها، في محيطها القريب في الجزيرة العربية أولا، إذ شنت الحرب على اليمن، وفرضت الحصار على قطر، ونأت عن القضية الفلسطينية، وسعت لأن تمالئ طرفا ضد آخر في الصراعات العربية خلافا لسياستها السابقة، التي كانت تسعى إلى رأب الصدع، وتقريب الفجوة. وما تجنح إليه اليوم في تحاملها على أطياف من المجتمعات في العالم العربي وقوى حية فيه.
من حق حكام المملكة العربية السعودية أن يُجروا التغييرات التي تفرضها التغييرات العالمية وتطور مجتمعهم، أو ما يرونه في صالح بلدهم، ولكن من دون التنكر لأسس بلدهم أو للقواعد الناظمة لسياسته. والأهم ألا يُجافوا أخلاق المروءة والعفة المرتبطة بمرجعية الإسلام التي يعتمدونها. ومن واجب حكام السعودية، كما أصحاب الرأي فيها، أن يدركوا أن الاختلاف حول سياستها، واختياراتها ليس مساسا بالسعودية، نظاما ودولة وشعبا، فلها مكانتها التي لا يمكن أن يجادل فيها أحد، ولشعبها حرمته، وما يفرض ذلك من واجب التوقير والاحترام. ولا يبدو أنها النظرة السائدة اليوم عند من يدبرون أمور المملكة، أو أبواقهم من أجهزة الإعلام. أقول هذا بمناسبة تحامل صحافي سعودي في شريط فيديو على المغرب، وكرامة أبنائه وبناته، وتقديمه النصح في ما ينبغي وما لا ينبغي، ونعته للمغاربة بأشنع الأوصاف.
ليست هي أول مرة تلجأ السعودية لأسلوب «التواصل» هذا مع المغرب، عبر مقاطع مصورة، فقد فعلت عقب ترشيح المغرب للمونديال، وطلع شاب يكيل السِّباب للمغرب، دافعا بعجز المغرب عن تنظيم لقاء دولي بحجم المونديال، وناعتا المغاربة بالبربر، وهم لذلك أبعد أن يتحججوا بروابط العروبة، ناهيك عن تعابير أخرى من التحقير. وما نحسب الانتماء إلى «البربر» في دائرة الإسلام سُبة، وهو الدين الذي لم يميز بين عربي واعجمي إلا بالتقوى.
والإسلام، حتى إشعار آخر، هو مرجعية المملكة العربية السعودية التي تأتمّ به. وانبرى شيخ كان لسنه أن يرده إلى القصد في القول، والتأني في الحكم، بمناسبة خروج مظاهرات في الرباط تندد بصفقة القرن، ناعتا المغاربة بما لا يليق نقله، أقلها نعته إياهم بالنفاق. وكان حريا به أن يعيَ أن فعاليات المجتمع المغربي شيء والسياسة الرسمية شيء آخر، وكانت الموضوعية تفرض كذلك التذكير بما قامت به الحكومة المغربية من شجب تصرفات مشينة تمس رموز الدولة. هذا لا يمنع الصحافي أن يعبر عن رأيه حول ما يراه تناقضا أو نفاقا، ولكن من دون أن يزِلّ إلى السب الرخيص، والتجني المقيت.
وفي شهر رمضان طلع مرة أخرى صحافي، لم يكن ليستحق الاهتمام، لولا أنه عرّض بشرف المغربيات وكرامة المغاربة، وسفّه سياسة البلد الاقتصادية. هل نطق المنتسب للصحافة هذا من تلقاء نفسه؟ أم هو بوق نقل ما حُمّل؟ السفيه إذا لم يُنهَ مأمور. وللذين يزجون النصح نرد في رفق، هل من حسن الاقتصاد احتجاز بعض من أثرياء المملكة السعودية، واقتضاء التنازل منهم عن قسط من ثرواتهم؟ وهل من سداد الرأي إجبار رئيس حكومة على الاستقالة في غير بلده، عدا ما تسرب من سوء المعاملة؟ وهل من المروءة التكالب على جار ضعيف، وقصف المدنيين فيهن ودفع مواطنيه إلى المجاعة والأمراض الفتاكة، مما تنقله الصحافة الدولية البعيدة عن الصراع؟ وهل من الأخلاق فرض الحصار على دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، كان هو الإطار المفترض لحل النزاع؟ ناهيك عن سابقة جمال خاشقجي، التي تنفطر لها الأكباد، ومن هم محتجزون من أصحاب الرأي، ومن قضى نحبه وراء القضبان. فلو ذات سِوار لطمتني، إذ كيف يملي ما ينبغي وما لا ينبغي من كان هذا شأنه؟ كان للتشنيع الذي أتانا نحن المغاربة، من بعض الأبواق السعودية، أن يؤلمنا حقا، لو أن ما عُّيرنا به صدر من أصحاب حكمة، وتوجهات حصيفة، ورُؤى ثاقبة.
التجريح الذي تفوه به الصحافي السعودي يسيء للسعودية أولا. فكيف لها أن تكون حامية للحرمين ولا تحمي ما يرتبط بهما من أخلاق؟ أليست حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة البيت الحرام، كما في الحديث الشريف؟ إلا إذا كانت حماية الحرمين الشريفين مما يهون عليها، وهو ما لم يجادل فيه المغاربة، حكومة وشعبا. فكيف أن تسيء هي إليه بإطلاق حملات رعناء على المسلمين وسوء معاملتهم.
من حق حكام السعودية أن يُجروا الخيارات التي يريدون، وترتيب الأوليات في منطقة شمال افريقيا كما يشاؤون. من حقهم، أن يستقبلوا من شاؤوا، متى شاؤوا، ويدسوا ما أرادوا لمن أرادوا كي يكون لسان حالهم، ولكن من الواجب عليهم مراعاة حرمة الشعوب إن أعياهم أن يدركوا منطق الدولة. من واجب الدبلوماسية المغربية في تعالمها مع السعودية أن تبقى في دائرة المبادئ، فالدولة السعودية هي ما يهم وليس نزوات أشخاص، أيا كانت مراتبهم، فالشعب السعودي قائم، وهو يستلزم منا نحن المغاربة واجب التوقير والاحترام. وقد أحسنت الدبلوماسية المغربية صُنعا حين أدانت الاعتداء على السعودية في منشآت أرامكو، ولا يسوغ لفعاليات الشعب المغربي أن تنزلق إلى ردود فعل لقول يستهجنه السعوديون الأحرار قبل غيرهم. وأحسن ما يستشهد به في هذا الشهر الفضيل، ما ورد في القرآن الكريم «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس».
بقلم : حسن أوريد
عذراً التعليقات مغلقة