بمناسبة ما أصاب مهنة المحاماة من تدهور خطير زعزع أركانها وعمق وضعها المتأزم منذ عقدين، وذلك بسبب جائحة كورونا، التي أصابت عددا من بقاع العالم، ومن ضمنها المغرب، بادر ثلة من النقباء القدامى ورؤساء جمعية هيئات المحامين إلى توجيه مذكرة إلى رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب والسادة النقباء الممارسين، فتم نشر هذه المذكرة بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي.
ولا شك أن هذه المذكرة سيكون لها وقع كبير على كل المحاميات والمحامين، مهما كانت درجتهم وموقعهم المهني.
وأمام وضع يصعب الاستمرار في تحمله، والقبول به كيفما كانت الأسباب، وإن كانت هاته المذكرة قد أعادت قراءة الوضع، ولخصت مختلف ما سبق للمحامين أن تداولوه في مختلف مؤتمراتهم وندواتهم خلال العقدين الأخيرين، وقبله، فهي أبانت بشكل جلي بأن جائحة كورونا عرت المستور بشكل لم يعد معه مجال للتأجيل والتأخير في إنقاذ مؤسسة الدفاع، التي تعتبر الدعامة الأساسية لكل نظام ديمقراطي، ولكل دولة تحترم حقوق مواطنيها، وتسعى إلى إقامة عدالة اجتماعية وترمي إلى ترسيخ قيم التضامن وروح المسؤولية، ولكونها مؤسسة وجدت للدفاع عن المجتمع في وجه الدولة وحمايته من كل ظلم.
الجرح ليس وليد اليوم
إن المحاماة في صمودها لأزيد من قرن كمؤسسة ضامنة لحقوق الدفاع عن المواطنين والمجتمع في تطور مستمر وفي انسجام كامل مع مبادئ التحرر والانعتاق وقيم الحرية والمساواة وبناء صرح دولة حقوق الإنسان وكرسالة إنسانية تنتشر وتترسخ وتتطور في عمق المجتمعات، وفي دواليب الدولة، كيفما كان نظامها، جعلها نسجت تراثا وفعلت قيما خلاقة، هي اليوم سندها في ضمان الاستمرار لنفسها، كوظيفة إنسانية واجتماعية وحقوقية لا يمكن الاستغناء عنها.
ولقد رصدت لنفسها عبر تاريخها ما تشهد به مواقفها عبر تطور المجتمع المغربي في المواجهة والوقوف والدفاع عن حق المواطن أمام مختلف الأنظمة التي تحكم المجتمع بمختلف أشكالها، وأمام طغيان المستعمر وأمام هجمة القوى الامبريالية وتحالف مختلف الأولكرشيات مع قوى الاستغلال والضغط وخنق المجتمع، واكتسبت بذلك موقعا رمزيا في ذاكرة المجتمع لا يمكن محوه أو الالتواء عليه، مهما اختلفت الأساليب والوسائل، رغم ما يطالها من تطاول من حين إلى آخر بغاية تركيعها وتدجينها.
وإن عرفت عبر مسارها التاريخي بعض الأخطاء من المنتمين إليها، وحتى من قيادييها، فإن هذا لا يقاس بمركزها وبرمزيتها في ذاكرة المجتمع، وفي مخيال المواطن.
ولقد اتخذت عدة تدابير من أجل الحد من صمودها منذ الثمانينات، حيث عرفت قوانينها عدة تعديلات،تبقى ذات مضامين شكلية، لم ترقى إلى عمق الرسالة والمكانة التي تحتلها المحاماة في ذاكرة المجتمع، وما يتطلب ذلك من تأهيل للمنتمين إليها، بأسرارها وما تحمله من ضمانات لدوام الانسجام والاستقرار ورفع راية الحق وضمان مجتمع العدل المتوازن في كل تطوراته.
كما انخرطت أجهزة المحاماة في الإصلاح الشمولي لمنظومة العدالة، في ظل تنزيل الإصلاحات التي أتى بها دستور 2011 ، وهي كلها أمل في جعل هذا الإصلاح مدخلا للإصلاح الحقيقي لجهاز العدالة، ومن ضمنه مهنة المحاماة. إلا أن الذي ظهر بعد أربع سنوات من الشروع في تنفيذ بعض من مقتضيات الإصلاح المذكور، هو تشكل حلف مهيئ ومتحد يستهدف تطويق المجتمع والتضييق على حقوق الأفراد وتقليص الحريات والتحكم فيها بجميع الوسائل المستحدثة، وبالخصوص وسائل التكنولوجيا وتوظيف المعلوميات، مما ترتب عنه التضييق على المحاماة وعزلها وإسقاط اعتبارها داخل المجتمع، رغم مختلف أساليب المحاباة والمجاملة السائدة .
فكان من الطبيعي أن تجد المحاماة نفسها مهمشة وفي وضع يشبه الاختناق، بسبب هذا الربط الجامع للجناحين المكونين للمنظومة القضائية (المؤسسة القضائية والنيابة العامة وجهاز الشرطـة) مما ترتب عنه نوع من العزلة وبروز بداية مرحلة الاختناقات التي تتخذ أشكالا مختلفة (أخلاقية واجتماعية واقتصادية وانحراف عن المبادئ ونكوس وزعزعة روح الصمود والتماسك …)
مسؤولية الدولة قائمة
لست بحاجة إلى التذكير بأن الدولة أخلت بواجبها في حماية المحاماة، وتأهيل رجالها ونسائها، علميا ومعرفيا، حسب ما تفرضه قوة وظائفها في حماية المجتمع، انطلاقا من التوجيه الجامعي والتكوين المهني الضروري والمطلوب على مستوى المعاهد المتخصصة وتوفير أجواء التدريب والتمرين، بجانب توفير ظروف وفضاءات ممارسة المهنة القضائية بكل معانيها ومبادئها وأخلاقياتها وهبتها المطلوبة، لما لها من قداسة في تراث وأخلاق المجتمع.
في ظل هذا الوضع المهني – والذي يظن البعض أن مشروع القانون الذي تهيئه وزارة العدل، سيكون المدخل لإنقاذ البيت الداخلي – جاءت جائحة كورونا لتفاجأ الجميع، فلم تترك الفرصة لأية جهة لتلتقط أنفاسها وتتخذ ما تراه مناسبا للتعبير على نواياها ومشاريعها، بل فجرت الوضع بقوة، فأردت معها جسد المحاماة في شبه احتضار: بتوقف أكثر من نصفه كليا، وشلل ما تبقى منه بشكل محبط.
فإذا كانت صرخة مجموعة من النقباء الأجلاء تنادي رئيس الجمعية والنقباء الممارسين، وتذكرهم بواجبهم المهني والحقوقي، وبمسؤوليتهم في إنقاذ المهنة وفتح جبهة داخلية على شكل مخطط متوسط وبعيد المدى، لمواجهة تدابير الحجر الصحي، فإن الأمر يتطلب فتح جبهة خارجية باستعجال بقصد المبادرة إلى استدراك كل ما يتعلق بالأمد الآني والقصير… مع العلم أن هيئات المحامين بادرت إلى تقديم مساعدات للمحامين الأكثر تضررا من الأزمة الحالية، لكنها ما زالت تثير العديد من التساؤلات حول معايير الأهلية للإستفادة من دعم الهيئات المهنية.
إلا أن ما ترتب عن الجائحة قد لا يحتمل الانتظار، مما يتطلب فتح جبهة خارجية تجاه الدولة وإثارة مسؤوليتها تجاه مهنة المحاماة ورسالتها، وفي اتجاه الأجهزة التي أوكل لها تدبير الجائحة، من خلال التدابير التي يتعين اتخاذها لإنقاذ الوضع المجتمعي والاقتصادي والصحي للمحامين.
لقد كان من المفروض، ولأول وهلة، الانتباه إلى أن السلطة القضائية كإحدى السلط التي وزع عليها الدستور تدبير شأن الدولة، لا يمكن أن تتراجع أو تتهاون أمام خطورة ووهن ما ترتب عن الجائحة، لتفادي اتساع رقعة الخسائر والأضرار.
فكان من المفروض أن تكون حاضرة بقوة، ليس فقط لضمان استمرار الخدمات العمومية القضائية، ولكن كذلك لضمان الاستمرار المؤسساتي لوظائف القضاء والعدل، وكل ما تمثله من ضمان الأمن القضائي والقانوني، بدل الانكماش كلية بعد إغلاق المحاكم، ووقف كل نشاطها منذ يوم 16 مارس الماضي، وما ترتب عن ذلك من تجميد الحقوق الدستورية، المدنية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
فلم تنتبه إلى أن ما تم القيام به سيؤدي إلى تهديد مؤسسة المحاماة وإغراقها وشل عملها.. وما قد يتطلب مسلسل إعادة إنقاذها من وقت طويل ومن جهد غير يسير، قد يستهلك سنوات من الجهد، وذلك بالنظر إلى طبيعة وظائفها ورمزيتها في دولة الحق والقانون، بل أكثر من ذلك لم نسمع عن إشراك أهلها وممثليها في كل التدابير التي اتخذت من طرف السلطات القضائية، ولا من طرف السلطات التي تدبر حالة الطوارئ بمختلف مستوياتها. مما ترتب عنه هلع أصاب المواطنين وأدى إلى اتساع هامش الخوف واليأس وسوء التقدير، ومضاعفات نفسية وقلق كبير.
وبالموازاة مع هذا التهميش، لم نسمع بأن السلطة التنفيذية، سواء في شخص وزير العدل، أو من أي جهة أخرى، فكرت في تدارك الأمر، وبادرت إلى اتخاذ الإجراءات لتدارك الوضع وإنقاذ أثاث المنزل، من خلال التدابير الاستعجالية التي يجب اتخاذها.
إنقاذ البيت من ألسنة اللهيب
فالحوار يجب أن يكون قائما ومستمرا، بين وزارة العدل والهيئات التمثيلية للمحامين، واعتماد المقاربة التشاركية ضروري، خصوصا في هذه الفترة المتميزة بجائحة كورونا، بالنظر لانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية، على نشاط مهنة المحاماة.
ففترة الحجر الصحي أدت إلى تقليص النشاط القضائي، وأثرت على عمل مكاتب المحاماة، بسبب الإجراءات الاحترازية، مع استمرار المحاكم في أداء الوظائف الأساسية والمستعجلة وتقديم الحد الأدنى من الخدمة العمومية في مجال العدالة. فصدرت قرارات تمكن من الحفاظ على الخدمات الأساسية والأمور الاستعجالية .
ولو أن هذه التدابير الرامية إلى التأقلم مع الوضع، قد سمحت بالحفاظ على الحد الأدنى من خدمات الدفاع، فلا بد من اتخاذ تدابير إضافية من قبيل تأمين الترافع عن بعد، وتبادل الوثائق بطرق الكترونية بين المحامين وموكليهم، والسماح للمحامين بلقاء السجناء وتبادل المعلومات عن بعد مع الموكلين… مع ضمان السرية…) وعموما يجب استغلال الإمكانيات الرقمية المتوفرة لضمان استمرار الخدمة العمومية في قطاع العدل.
فمكاتب المحاماة، مثلها مثل باقي مقدمي الخدمات، ليست محصنة ضد تداعيات هذه الانتكاسة، ولكن يجب أن يأخذ التحليل في الاعتبار مختلف ملامح المهنة، والتي، في الغالب، قد تستثنى من تدابير الدعم المقترحة.
فبنية المكاتب تتميز بقلة المستخدمين والاستعانة بالعديد من المتعاونين. فكثير من المحامين ليسوا مأجورين، وأغلبتهم الساحقة يمارسون المهنة بشكل فردي، أو كشركاء أو متعاونين ليبراليين. وقلة قليلة من مكاتب المحاماة تشغل أزيد من 10 أجراء … مما يجعل وضعها وضعا خاصا يستدعي معالجة خاصة ودقيقة، بهدف إخماد ألسنة اللهيب التي تطال المهنة وتهدد البنيان.
ويجب بالأخص الالتفات للوضع الكارثي للمكاتب الصغيرة، ولوضع المحامين المتدربين والمحامين المتعاونين، … بسبب تأثرهم بشكل قوي جراء جائحة كورونا.. كما يتعين تمكين المحامين من التدابير التي اعتمدتها وزارة المالية للتخفيف من حدة الأزمة … من قبيل تأجيل أداء المستحقات الضريبية المختلفة، والمساهمة في صناديق الضمان الاجتماعي وغيرها .. وتخفيف الضغط على المكاتب المتضررة، ووضع مستخدمي مكاتب المحاماة في وضع بطالة، لتمكينهم من الاستفادة من الدعم… وتأجيل أداء مستحقات كراء المكاتب وفواتير الماء والكهرباء … ووضع تدابير ترمي إلى الاستفادة من صندوق الدعم.
كما يتعين وضع إجراءات خاصة، تهم منح تسبيقات للمحامين الذين يستفيدون من المساعدة القضائية. وللتذكير، فهذا الدعم قد يصل في فرنسا إلى حدود 25 % من متوسط رقم المعاملات برسم المساعدة القضائية. كما يتعين دعم المحامين الشباب الحديثي العهد بالمهنة.
كما يتعين تسهيل الحصول على الحد الأدنى للعيش، وضمان مواصلة تحمل مسؤولية الدفاع عن حقوق المواطنين والأداء العادل للقضاء ….
هذا، ويتعين التأكيد على قطاع المحاماة كقطاع استراتيجي بامتياز بحكم موقعه المادي ووظائفه داخل المجتمع، بجانب تشغيله الآن لما يفوق 60 ألف منصب شغل، باعتبار أن عدد المحامين يتجاوز 15000 محامي، وهم في وضعية مهددة بالانهيار، إذا لم يتم الانتباه إلى ضرورة تدخل الدولة بغاية إنقاذ ما تم تشييده وبناؤه وترصيده عبر تراكم دام أزيد من قرن من الزمان، وكله عطاء من أجل دعم مسار تنموي متجدد ومتوازن ومنفتح، يصبو إلى تحقيق العدل وتهيئة المجتمع للدخول في عالم المعرفة وتحصين قيمه المادية والروحية، لجعل مهنة المحاماة قادرة على التناغم والتفاعل في منظومة كونية لا تتوقف.
إنها رسالة المحاماة المتطلعة للمستقبل بأمل وثقة عبر التاريخ … ولا يجب اليوم ترك لهيب كورونا يلتهم بيتنا، لأنه بيت الجميع، وملجأ كل متضرر وكل مشتكي وكل طالب حق ومناشد للعدل وكل مظلوم.
عذراً التعليقات مغلقة