لم يكن يدور بخلد “الحاج محمد”، وهو الذي أفنى أربعة عقود من عمره في مناجم الشمال الفرنسي أو مصانع السيارات بضواحي باريس، أن عودته للاستقرار ببلده الأم المغرب ستتحول إلى معركة إدارية يومية عنوانها “الحيف الصحي”. حاله كحال آلاف المتقاعدين والأرامل، يجد نفسه اليوم عالقاً في فخ ثنائي: اقتطاعات فرنسية بالعملة الصعبة من معاشه، وتعويضات مغربية “هزيلة” تخضع لمنطق تعريفة مرجعية تجاوزها الزمن.
تبدأ القصة من قسيمة المعاش التي تصل من فرنسا؛ حيث تقتطع الصناديق الفرنسية (CNAV) نسبة مئوية قارة مقابل التغطية الصحية.هذه المبالغ، التي تُحول بانتظام، تمنح المتقاعد نظرياً حق الاستفادة من التغطية في المغرب عبر “نظام أمو” (AMO).
لكن الصدمة تكمن في “التنزيل المغربي” لهذا الحق؛ فصندوق الضمان الاجتماعي بالمغرب (CNSS) يطبق “التعريفة المرجعية الوطنية” التي وضعت قبل سنوات طويلة ولم تعد تساير الواقع الملتهب لأسعار المصحات الخاصة والأدوية الحديثة.
فبينما يدفع المتقاعد ثمن الدواء أو الفحص بالسعر الحقيقي للسوق، يعوضه النظام على أساس “سعر تقديري” يقل أحياناً بنسبة 60% عن الواقع. هذا الفارق الشاسع يحول المرض لدى هذه الفئة من ابتلاء جسدي إلى “كارثة مالية” تهدد استقرارهم المعيشي.
وإذا كان وضع المتقاعد صعباً، فإن وضع الأرامل اللواتي يعشن في المغرب يلامس حدود المأساة. فمعاش الأيلولة (Réversion)، الذي يمثل نسبة من معاش الزوج المتوفى، يتعرض بدوره للاقتطاع الصحي. تجد الأرملة نفسها أمام مساطر إدارية معقدة تتطلب إرسال ملفات طبية، وترجمة وثائق، وانتظار شهور، ليكون التعويض في النهاية مبلغاً “مهيناً” لا يغطي حتى مصاريف التنقل إلى وكالة الضمان الاجتماعي.
السؤال الذي يطرحه المتقاعدون اليوم بحدة: أين هي الإدارة الفرنسية من هذا “الشطط”؟
قانونياً، تلتزم فرنسا بموجب اتفاقية الضمان الاجتماعي (2007) بضمان التغطية لمتقاعديها.
ويرى خبراء أن الحل يكمن في “تحديث” هذه الاتفاقية في أفق 2026، بحيث تُفرض صيغة تعويض “تكميلية” تمولها الاقتطاعات الفرنسية لتغطية الفارق بين التعريفة المرجعية المغربية والتكلفة الحقيقية.
كما أن البرلمان الفرنسي، الذي صادق مؤخراً على الميزانية الجديدة، مطالب بالنظر في وضعية هؤلاء “العمال السابقين” للصناعة الفرنسية.
فالتدخل المطلوب ليس “صدقة”، بل هو تفعيل لمبدأ “المساواة في الحقوق”؛ فالمتقاعد الذي يعيش في مارسيليا يحصل على تعويض كامل، بينما زميله الذي اشتغل معه في نفس المصنع ويعيش في أكادير أو الناظور، يُعاقب مالياً لأنه اختار قضاء ما تبقى من عمره في وطنه.
إن استمرار العمل بالتعريفة المرجعية الحالية في ظل إصلاحات الحماية الاجتماعية الكبرى التي يقودها المغرب، يعد “نقطة سوداء” تتطلب تدخل القنوات الدبلوماسية. فالأمر لا يتعلق فقط بأرقام وحسابات، بل بكرامة جيل ضحى بالكثير، ويجد نفسه اليوم “غريباً” في منظومة صحية تقتطع منه “بالأورو” وتعوضه بـ “الفتات”.


















Sorry Comments are closed