كثيرة هي الأقاويل التي تجري بها ألسن العامة من المسلمين, سبا و شتما على الملل و الأديان, إضافة إلى الغيض الدفين التي يكنه عامة المسلمين لليهود و النصارى, على الرغم من أنني لا أعمم إلا أن النسبة الكبيرة منهم تتبنى هذا الطرح تحت سيطرة مطلقة لموروثات قديمة طغت على عقل المسلم خطأً فجعلت منه متسلِّطا على البشرية و مهيمنا على الوصاية الدينية باعتبار أن الإسلام هو الدين الحق.
طبعا كمسلم أعترف أن الإسلام دين حق, كما أعترف أن المسيحية و اليهودية كذلك هما دينا حق, لكن الإشكال ينصب حول تعريف هذه الأديان السماوية, و كيفية التعايش السلمي بعيدا عن التعصّبات الطائفية وسط حوار ديني ثقافي راقي يتماشى و رُقِي العالم اليوم.
كثير من المسلم يلعن و يسب مخالفيه, و لو سألته عن سبب ذلك لرأيت منه العجب العجاب و لأكتشفت أنه ورث السب و الشتم في حق الملل المخالفة دون أن تكون لو دراية بما يجري حقا و دون أن يدرس الأديان الأخرى ليدرك حجم جهله بها , تجده يجهل حتى دينه الإسلام فلو درسه بما فيه الكفاية لفقه حكم الأديان السماوية الأخرى و لعلم كيفية معاملة هؤلاء الناس و إلى أي حد سنحبهم في الله و سنتعارف معهم. قال تعالى: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”.
كثير من هؤلاء الذين يرفعون عصا الوصاية في وجوه الأديان الأخرى يستشهدون بآية قرآنية كي يفندوا غير الإسلام و يبينوا ضلال الآخرين في قوله تعالى ” وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ “.
السؤال المطروح هو : ما هو الإسلام الذي يعتبره الله تعالى دينا للبشرية جمعا؟
بالرجوع إلى القرآن الكريم نقرأ في آيات كثيرة, قول الحق تعالى: ” مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”, في الآية يؤكد الله سبحانه و تعالى أن النبي إبراهيم عليه السلام كان مسلما ثم بعدها مباشرة ينفي أن يكون مشركا ما يجعلنا نربط بينهما لنستنبط تعريفا للإسلام و لنبسطه في كلمة التوحيد, أما الشريعة فهي مجرد فرع بسيط لا يستحق كل الضجة المثارة حوله لأن الإسلام هو نقيض الشرك.- و الشرك هو أن تجعل لله ندا و شريكا أما الإسلام فهو أن توحد الله و لا تشرك به شيئا-.
قال تعالى في آية أخرى: ” وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً” و قال أيضا :” إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” و قال عز و جل :” أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” نعم هم مسلمون أيضا فلا سبيل إلى تكفيرهم إن كانوا يؤمنون بوحدانية الله و أقروا برسالة المصطفى صلى الله عليه و سلم, أما الشريعة فهي فرع آخر كما سبق القول.
و قال تعالى:” قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” و هنا أقر الله تعالى الإسلام لجميع الأنبياء رغم اختلاف التشريعات بينهم, و قال تعالى أيضا على لسان يوسف:” رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ”
كيف يقول يوسف “توفني مسلما” و هو قبل بعثة الرسول الكريم بقرون مضت إلا أن يكون للإسلام تعريف عقدي محض و ليس تشريعيا بالمرة. و انظر إلى قول النبي نوح أيضا :” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ, فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ” كيف يُؤمر نوح بأن يكون مسلما إلا أن يكون الإسلام توحيدا لله تعالى.
آيات كثيرة نستنبط منها معنى تعريف الإسلام الذي يرضاه تعالى لعباده و ليس له علاقة بالتشريع أبدا لأن التشريع مرحلة تأتي بعد الإعتقاد و هي في مجملها تتعلق بعنصر العبادة.
و العبادة واقع معاش قبل أن يكون مادة للنقاش و التفلسف بشكل نظري بعيدا عن الممارسة اليومية, و لعل عنصر العقيدة من أهم ما يميز العبادات باعتبارها أكثر الحوافز تأثيرا على مستوى هذه العبادات لذلك جعلها الحق سبحانه محورا مسمى بالدين كله, و العبادة تشريع إلهي يمارسها العبد تقربا لله الواحد الأحد, و خضوعا لأوامره, و نزولا عند رغبات الفرد نفسه بالتعبد, خاصة و أن الإنسان عبد بالفطرة شاء أم أبى, إلا أن درجات العبودية تختلف باختلاف المعبود, ففي الأزمنة الغابرة نجد الإنسان قد عبد المخلوقات الأخرى, كالأحجار و الأشجار و الكواكب و النجوم و غيرها من غير جنسه علما أنه في غنى عن ذلك كله, ثم تلت هذه الحقبة حقبة أخرى عبد فيها الإنسان إنسانا مثله و غالبا ما يكون الإنسان المعبود في هذه الحالة ملكا أو حاكما مستبدا يمارس سلطاته بشكل ديكتاتوري, و يكون الخضوع له قسرا لا رغبة و لا حبا, و قد رافقت هذه العبادات عبادات أخرى زمانا و مكانا, و قد يستهين بها المرء أحيانا بل هناك من لا يشعر بها إطلاقا, كعبادة النفس التي نجدها قد انتشرت في عصرنا انتشار النار في الهشيم حيث تجعل الإنسان يتفلسف ليصل إلى حد يجعله يتملص من العبادة الظاهرة بشكل نهائي ليدخل دوامة عبادة النفس بدون أن يشعر أنه عبد لنفسه, و يتجلى ذلك حينما يطيعها في كل ما ترغب فيه كما هو الشأن بالنسبة للادينيين, أو يجعله هذا العبث الذي وصل إليه يقدس نفسه أحيانا و يقدس عقله أحيانا أخرى و يجعله إلاها يسمو فوق كل اعتبار كما هو حال الملحدين و غيرهم من عبدة العقل البشري, و جل هذه العبادات موجودة في وقتنا الراهن و لا تختلف عن سابقاتها إلا في طريقة ممارستها, حيث نجد عباد الملوك و السلاطين و قد ملأوا أرجاء المعمور و نجد عباد الكواكب كذلك تحت مسميات أخرى غير ما كانت عليه في الأزمنة الغابرة كالمنجمين و العرافين و الدجالين و السحرة, هذه المهن و الأنشطة الغير أخلاقية, و التي رسخت في المجتمع تحت مسميات أخرى لا يقبلها المنطق السليم فضلا عن أن يقرها دين إلهي المصدر.
و لما كانت العبادة عنصرا لا مناص منه في حياة الإنسان و لأنه مفطور عليها من جهة و غير قادر على تحمل مسؤولية الكون من جهة أخرى لكونه ضعيف العقل و قصير اليد في هذا الكون الفسيح و ليس بمقدوره أن يعلم كل ما يدب على الأرض كله فضلا عن أن يعلم كل ما يروج خارجها من مخلوقات و حيوات فضلا عن أن يدير الكون, لكل ذلك كان لابد لله العظيم صاحب الملك العظيم أن يهدي بني الإنسان إلى جادة الصواب و يجيب عن تساؤلات حيرت الأولين و يسن دينا ينظم العلاقات الفردية و الجماعية و يؤطر العلاقة بين الفرد و بين الله جل و علا, فكان إرسال الأنبياء و الرسل من رحمته تعالى بعباده حتى لا يتيهوا في مغارات الجهل و العار و حتى لا ينظر الإنسان لنفسه فيجدها أفضل مخلوق فيفتنه الشيطان لينازع الله تعالى الملك و الألوهية إدعاء و ليس حقيقة لأنه تعالى قادر على أن يزيل و يفني كل من في السماوات و من في الأرض و من في الكون أجمع إذا هو شاء سبحانه, لذلك تم إرسال الأنبياء و الرسل ليبينوا للناس ما هم فيه مختلفون و يظهروا لهم أن الله تعالى هو المعبود بحق و أن ما دونه ما هم إلا مخلوقاته تعالى, التي تدل و تبرهن على وجوده سبحانه و تدل على عظمته و قدرته و جلاله و عظيم سلطانه, فأرسل هؤلاء المختارين ليحملوا مشعل رسالة التوحيد لينيروا بها سبيلا للضالين و الغافلين و يوضحوا لهم منهج الحق و طريق الصواب و يوحدوا فكر الناس حتى لا تحصدهم التفرقة و يطالهم الضعف و الجبن, و حتى ينظم علاقاتهم بمحيطهم و مجتمعهم بشكل كمالي يعجز الإنسان أن يأتي بمثله, لذلك كانت هذه العبادات قوية الإنتشار بين الناس فهيمنت على سائر العبادات التي تمارس بغير حق, و كونت لها مساحة شاسعة بفضل جهود الأنبياء و أصحابهم و دعاة الحق من بعدهم.
و هي عبادة بدأت منذ أن خلق الإنسان و ستستمر إلى قيام الساعة , و لا تختلف إلا على مستوى التشريعات و النظم التي يأمر بها الحق سبحانه حسب الزمان و المكان, أما المحتوى و المضمون الجوهري العقدي فيظل واحدا رافعا شعار التوحيد في وجه كل مشرك جبار,
الإختلاف في التشريعات صاحب تغيرات المجتمع البشري بكل تحدياتها, و لأنه عز و جل علم أن تلك الشرائع السابقة لا تصلح إلا لنمط بدائي أو مختلف لم يحفظها من التحريف و التبديل، بل أقر بتحريفها ليثبت أن متغيرة و ليست ثابتة و أكد على أن القرآن الكريم هيمن عليها و أتى بما يصلح للإنسان حتى تقوم الساعة, خاصة للإنسان العربي الذي توالمه تشريعات الإنسان وفق بيئته و مجتمعه.
و هذه المسؤولية الجسيمة التي تتجلى في نشر الدين و الدعوة إليه حملها الأنبياء و الرسل فبلغوا عن ربهم لكل الأمم و عبر كل العصور, و لم تندثر حضارة و لا مرت دون أن يكون فيها مبلغ عن ربه, و ذلك ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله عز و جل في سورة فاطر: “وَ إِنْ مِنْ أُمّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِير”, فتحملوا في التبليغ عن ربهم عز و جل أشد الإبتلاءات و الشدائد التي كانت تعصف بهم أمام المشركين في سبيل إعلاء كلمة الحق و نصرة دين الله في الأرض, فكان ثوابهم جزيلا و شكرهم عظيما, كما أن الذين آمنوا ساهموا إلى حد كبير في انتشارها و اعتناقها من قبل الناس.
و العبادة التي أمر بها الحق سبحانه عباده هي في حقيقة الأمر دليل للعيش الرغيد و الحياة السعيدة وفق ما تقتضيه الحياة في مجتمعات مختلفة, بل إنها فطرة فطر الله الناس عليها, و لا تستقيم أحوال المرء إلا إذا اتبع طريق الحق و سلك سبيل العبادة الحقة, فهي بمثابة دليل الإستعمال الذي يرفقه الصانع بمنتوجه حتى لا يصيبه التلف و حتى يحسن الزبون استخدامه و يعقلن استغلاله, أما حال الملحد أو المشرك فلا يصفو أبدا و لا يجد طعما للسعادة بل لن يجد تعريفا محسوسا لها و قد يجهلها تمام الجهل ما يجعله يضع حدا لحياته في غالب الأحوال , ذلك أن الحق جل و علا يتوعدهم بسوء المعيشة و ضنكها بالرغم من توفر الماديات الميسرة للعيش الرغيد في الدنيا, حيث قال تعالى في سورة طه: “و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى , قال رب لما حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا, قال كذلك أتتك آياتي فنسيتها و كذلك اليوم تنسى”, و ذلك لكون الإنسان يعيش داخل عالمين مرتبطان ببعضهما لا يفرقهما إلا الموت و لا يجمعهما سوى العمر.
العالم الأول مادي محض يعيش على الماديات و هو البدن و آخر يعيش على المحسوسات و هو الروح, فإذا اختل ميزان هذين الشقين فإن صاحبهما يعيش في ضيق و ضنك, ذلك أن أحدهما أكل من حق الآخر فأفرط, و قصر أحدهما في جانب الآخر ففرط.
إن قضية ظهور الأديان جعلت الكثير من الناس يعرضون عنها بشكل رهيب و قد يعادونها و يحاولون النيل منها بكل الطرق و الوسائل, و نحن لا نلوم أولئك المعرضين إذا هم قارعوا الحجة بالحجة و لا نكرههم على عبادة الله قسرا, بل من حقهم أن يسألوا الأنبياء و الرسل, -و أهل الذكر في عصرنا الحاضر- لمعرفة حيثيات هذا الدين الجديد عليهم لأنه غير مألوف عندهم الذي قد يضرب معتقداتهم و توجهاتهم في الصميم بل سيغير حياتهم رأسا على عقب في غالب الأحيان و سيبدل قوانينهم و أعرافهم و مكتسباتهم عبر التاريخ و العصور, نحن نعي هذه الحيثيات من كل جوانبها لكن ما يجب معرفته أيضا هو أن مصدر هذا الدين هو الله جل و علا و ما كان تعالى ليغفل ما فطن له العقل البشري الضعيف و المحدود, لذلك قسم الدين إلى شقين رئيسين لا يأتي الثاني إلا بعد ترسيخ الأول كما أن الأول يثبت صحته بالقرائن و الدلائل و البراهين الملموسة وفق منظور العقل البشري المادي و الذي يجعل الجانب الغيبي يرتبط بالخيال أكثر مما يربطه بالحقيقة, أما الشق الأول فهو جانب العقيدة هذا الجانب الذي يعلم الإنسان أن الحق جل و علا لا يمكن أن يأمره بشيء و هو ليس على يقين به, بل يجعل له برهانا و آية حتى لا تكون له عليه حجة, و من ذلك ما يأتي به الأنبياء من المعجزات و الخوارق التي لن يتمكن إنسان أن يأتي بمثلها مهما بلغ علمه و عظم سلطانه, بل إن اختيار المعجزات من قبل الله جل و علا يأتي بالموازاة بما ينبغ فيه المرسل إليهم في جميع الميادين, كما وقع زمن الفراعنة إبان حكم منيفتاح بن رمسيس الثاني الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى و اعتبر نفسه إلاه مصر فلما جاءه موسى باللين و طيب الكلام أبى أن يؤمن بالله و استنكر أن يكون إلاها آخر غيره على حد ظنه, و طالب موسى بالدليل و البرهان القاطع على صدق ما يقول, و معلوم أن هذه الحقبة معروفة باحتراف السحر و وجود عمالقته في مصر كلها فجمعهم فرعون للنيل من موسى و إظهار كذبه و هو يعلم في قرارة نفسه أن ما جاء به موسى عليه السلام, ليس كذبا لأنه رباه في قصره و أمام عينيه و ما علم عنه التعاطي للسحر قط, لذلك كان يعلم أن موسى صادق لكنه أراد أن يتأكد من فراسته, فلما غلب السحرة خروا سجدا و آمنوا بموسى على الفور لما علموا من السحر بل إنهم أحاطوا به من كل جانب فلما عجزوا عن مجاراة موسى عليه السلام أيقنوا أنه الحق من ربهم و أعلنوا توبتهم و رجوعهم إلى الحق و كفرهم بفرعون و سلطانه, ذلك أن تصحيح العقيدة يحتاج دليلا عقليا و ماديا خالصا لا يتصل بالمسلمات إطلاقا, فكان انتصار موسى على أعظم السحرة دليلا ماديا و معجزة ظاهرة ليؤمن الناس به, و كذلك الشأن لكل الأنبياء, جاؤوا بمعجزات خارقة لعادة الإنسان و بعضها جاء استجابة لطلب الناس قصد الإيمان الإطمئنان , و خير معجزة لا تزال بين أيدينا اليوم هي القرآن الكريم الذي تحدى جميع الخلق أن يأتوا بمثله و لازال ينزل مستوى التحدي حتى وصل سورة واحدة و لم نجد أحدا استطاع ذلك و لو بالتقريب, أما محاولات المحاولين فتبعث على الضحك أكثر مما تشد حزام الجد, كما نجد في كتب التاريخ حول زعم مسيلمة الكذاب حيث ادعى النبوة و زعم أنه أوحي إليه مثل رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يحدث الناس بكلامه الفارغ من كل معنى و المفتقد لكل عناصر البلاغة , و من ذلك عندما يقول في سورة الضفدع على حد زعمه: يا ضفدع بنت ضفدعين, نقي ما تنقين, نصفك في الماء و نصفك في الطين, لا الماء تكدرين و لا الشراب تمنعين, و قال في سورة الفيل : الفيل ما الفيل و ما أدراك ما الفيل له دنب وبيل و خرطوم طويل و إن ذلك من خلق ربنا لقليل, و غيرها من سور قرآنه المضحك كسورة الشاة و الجماهير و الطاحنات مما أوصله لنا المؤرخون, لكن المثير للضحك أكثر هو أن أتباعه في استطاعتهم نسج كلمات أبلغ مما يقول و هم على علم بكذبه و زعمه و مع ذلك فهم يساندونه ضد الحق من منظور الحمية و العجرفة والغطرسة و التعصب للعرق لا من منظور التحليل المنطقي السليم, و قد صارحوه بذلك عندما قرأ عليهم سورة الضفدع التي جعلت نفوسهم تقشعر خجلا كون ذلك الأسلوب لا يرقى حتى إلى مستوى بعضهم فضلا عن أن يكون رباني المصدر, حيث قال له أعرابي: و الله إننا نعلم أنك تعلم أننا نعلم أن محمدا صادق و لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر, و هكذا ظل المشركون في التصدي للإسلام دون أن يكون في مقدورهم النيل منه أو تغييره,
أما الجانب الثاني من الإسلام الذي لا يمكن لصحيح العقيدة أن يطعن فيه فهو جانب التشريع و العبادات و القربات إلى الله تعالى, فمتى تيقن المؤمن أن محمدا عبد الله و رسوله وجب عليه الإمتثال لأمر الله و لو بدا له بعض ما يخالف هواه و عقله, فكثيرة هي الأمور المخالفة لأهوائنا و عقولنا فنكتشف بعد أمة أنها الخير عينه, و كثيرة هي الأمور التي تبدو حسنة و قد حشيت سما يتربص بالمرء في كل مرة يقدم عليها, و لا يتسع المقال لشرح العبادات واحدة واحدة, لكنها تشمل كل ما أمر به الحق جل و علا و نهى عنه, و الخضوع لله و عبادته يعنيان الإلتزام بكل المأمورات و اجتناب كل المنهيات, مع ترك الشرك بكل أنواعه و مظاهره و تجلياته.
لما ندرك أن هذه العبادة عبادة حق و أن الآمر إله حق و أن الرسول رسول حق حينها تتربى لدينا قناعة داخلية و تتجدر في صميم القلب و تحتل كل كياننا فتصرخ لتقول للغافلين هلم إلى خير كثير و فلاح مبين, تعالوا إلى الحق و دعوا عنكم ما لا ينفع و قد يضر, اقبلوا بقلوب صافية نقية يشرح الله صدوركم بما به شرح صدورنا, فديننا دين البشرية جمعاء و ديدن العباد الزهاد, و قناعتنا لن تتبدل مهما تكاثرت الصدمات و كيفما جاءت البلايا فنحن نؤمن إيمانا جازما أن نهج الحق صالح لكل زمان و مكان ما دامت السماوات و الأرضين و ما دام الكون قائما لأن خالق الكون هو نفسه واضع النهج و لا يمكن للمخلوق أن يأتي بأفضل ما سنه الخالق, فليغرد من شاء بما شاء, فلا سبيل إلى السعادة بدون الإسلام, و لا يستقيم حال إلا به لأنه الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه,
و العبادة المثلى هي اتباع النبي محمد صلى الله عليه و سلم, دون أن نطعن في عبادة اليهود و النصارى وفق شريعتهم لأنها في آخر المطاف شريعة إلهية محضة, فلو لم تُحرف و اتبعوها كما هي و اعترفوا بنبوة محمد عليه الصلاة و السلام فإنهم على حق و لو لم يتبعوا ما نحن عليه, لأن الله تعالى يركز على الجوهر و ليس المظهر، لأن التوحيد جوهر و أركان الإيمان جوهر و من استوفاهم جميعا و اتبع شريعة نبيه كان من الصالحين.
فالإسلام الذي يدعوا إليه الله تعالى هو الموضح بالآية الكريمة في قوله تعالىك” قُلْ يٰأهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألا نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِه شَيْئًا” فكلمة سواء تعني ما تساوى بيننا أي التوحيد فأما غيره من الشرائع إنما تقام وفق العصر و المجتمع, و لذلك لم يحفظها الله تعالى من التغيير لأن تستوجب التغيير أصلا, فلو كانت ثابتة كالتوحيد لما احتاجت البشرية لتجديد الشريعة مع كل نبي مرسل و لحفظها الله تعالى من التحريف و التبديل. و إنما ذلك دليل على تغييرها و تبديلها وفق ما تستدعيه مقتضيات العصر و متطلباته.
فالدين في مجمله عبارة عن ثلاث محاور رئيسة هي : التوحيد و الأخلاق و الشريعة, فأما التوحيد و الأخلاق فهما الثابتان الذين لا يتبدلان و لا يتغيّران في كل الشرائع السماوية, عكس الشريعة تماما و التي هي فرع صغير من الدين و التي تتغيّر وفق الزمان و المكان و كل الشرائع السماوية صحيحة بنص القرآن فلا يجب علينا أن نبخس شرائع الآخرين و أن نزدريها قال تعالى:” شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصّٰى بِه نُوْحًا وَالّذِيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إبرَاهِيْمَ وَمُوْسٰى وَعِيْسٰى أنْ أقِيْمُوا الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُوْا فِيْهِ، كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِيْنَ مَا تَدْعُوْهُمْ إلَيْهِ، اللهُ يَجْتَبِيْ إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيْ إلَيْهِ مَنْ يُنِيْبُ” و بذلك يثبت تعالى أن الشريعة جزء من الدين و ليسن دينا إذا اعتبرنا “من” تبعيضية و ليس تبيينية فأقر تعالى شرائع الأنبياء المذكورين في الآية صحةً ثم قال: أنْ أقِيْمُوا الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُوْا فِيْهِ, ليذكرنا أن الدين الكامل هو التوحيد و الأخلاق و أن الشرائع على اختلافها لا ينبغي أن تفرقنا.
و قد أثنى الله تعالى على أهل الكتاب في آيات كثيرة و وصفهم بالصفات الحميدة و العبادة و وعده بحسن الجزاء على صالح أعمالهم, فقال سبحانه و تعالى:” ليْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، وَأُولَئِكَ مِنَ الصالحين و ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ،
و الله عَلِيمٌ بِالْـمُتَّقِينَ”
عذراً التعليقات مغلقة