الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ، لا اله الا هو اليه المصير. والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله ارجح الخلق طرا اجمعين عقلا وحلما وابصرهم ذهنا ورأيا واصدقهم قولا وفعلا وازكاهم روحا ونفسا واجمعهم ،بلا تزيد ولا ارتياب، لما يحمد ويتزين به الرجال من شمائل وسجايا واخلاق وفطانة وخلوص نية وعمل لله سرا وعلانية . اما بعد فحري وحقيق بكل ذي لحاظ سليم متتبع لمجريات الاحداث في مغربنا الحبيب الغالي المعاصر ان يلاحظ، دون كبير عناء ولا زائد جهد، انه كثر وطم وعم وانتشر، كالجراد اذا انتشر، الجدل والمراء والخلاف المذموم في امور ، لا اخالها الا هامشية او ثانوية ،ان لم تكن تافهة سخيفة مقارنة مع ما يجب وجوبا عينيا ان تتوجه له الوجهات وتلتفت وتصرف اليه الاهتمامات من انجازات واصلاحات واستحكامات تخص بالذات جوانب ترسيخ ثوابت العدل والامن والتأخي والمساواة والتعاون وتضافر الجهود وحشد الهمم وغيرها من المقومات الحيوية الكفيلة والضامنة لتحقيق كل ما من شانه ان يصلح احوال العباد والبلاد ، دينا ودنيا وعاقبة في هذا البلد الامين الذي لا يستحق، بلا مبالغة ولا مجاملة، ابناؤه الكرام البررة ، وعن بكرة ابيهم، الا كل خير واحسان وعيش هنيئ وحياة طيبة وسعادة في الاخرة والاولى . اما المقصود ، باسباب التفرق والتشتت ومكامن الخلاف والجدال المذكور انفا فليس سوى ما انفكت تتداوله وسائل الاعلام وبشتى اشكالها والوانها وتوجهاتها وتتناوله اقلام الكتاب والمفكرين والمنتقدين والادباء والسياسيين وغيرهم بخصوص موضوع اللهجات وما يحوم حوله وينتج عنه من نزاعات وحوالق وحسابات حزبية ضيقة ونعرات ولجاجات طائفية وعداوات وتعصبات وحميات جاهلية اخرة لا تقل خطرا عظيما وفسادا كبيرا وشرا مستطيرا من الاولى المذكورة في القران. وكل ذلك، كما يجب ان يعلم ويقطع به، لا يخدم الا مصلحة الاعداء، وهم كثر ومكرة وخدعة، في الداخل والخارج، قديما وحديثا، ومن سلك ، عن قصد او عن غير قصد ، مسلكهم من دعاة التمييز والتشرذم والتحزب ولو كان بعضهم يبدي للبعض الاخر نوعا من التحالف والتقارب والتحابب والتخالل المصلحي النفعي الظاهري الذي لاتعدو حقيقته ان تكون في الواقع ليس الا من باب قوله عز وجل ، الاخلاء يومئذ [بل حتى في يومنا هذا]بعضهم لبعض عدو الا المتقين. او على الاقل من باب: وان كثيرا من الخلطاء [ الشركاء والفرقاء…] ليبغي بعضهم على بعض الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم .
ذلك ، فاذا كان شغل وهم وغاية رجال السياسة والفكر واهل الحل والعقد والذكر والراي من ولاة الامور، علماء كانوا او امراء، كل حسب امكانياته المادية والمعنوية ومسؤولياته الملقات على عاتقه وايمانه المقذوف في قلبه، هو بالذات السعي الحثيث في تحقيق سعادة وفوز شعوبهم والرفع من مستوى عيشهم وتقدمهم وسيادتهم بين غيرهم من الامم، وعلى اساس القاعدة الاصولية القياسية القائلة تفاؤلا ان الامر اذا ضاق اتسع واذا اتسع ضاق فان بامكانهم ذلك بالواسع ولكن لابد لهم اولا من ان يخطوا خطوات ربما تكون كثيرة ولكنها ، ثانيا، ليست مستحيلة ولا مستعصية بل هي من السهولة واليسر بمكان ولكن، ثالثا، لا سبيل اليها ولا رجاء في الوصول اليها وملامستها الا باتخاد ثلاث خطوات انطلاقية اوجز تناول الحديث عنها في الاتي: اما الاولى وهي الاهم بجدارة وامتياز فتتجلى في توحيد الكلمة والصف والغاية والوسيلة والشرعة والمنهاج على اساس قول رب الناس جلت قدرته: وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون ( فاتقون ) وقوله في سورة الحجرات: يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم: فدلت لام التعليل في “لتعارفوا” على ان المقصدية الربانية من خلق الناس هي بالذات التعارف الذي من معانيه ومرادفاته ومستلزماته التفاهم والتعاون والتواصل والتراحم والمعاملة بالحسنى والفضلى والمواطنة الحقة المؤدية الى الوحدة والتعايش والتسامح والتواصي بمكارم الاخلاق ونبذ التعددية والخلاف والتضاد والمعاداة الجالبة للفشل والانحطاط وذهاب الريح وهلاك الامة على غرار قول القائل: وما الناس الا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين غريق.
اما الخطوة الثانية فحاصلها اقامة العدل بين الناس على شاكلة تساوي اسنان المشط كما شبهها حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا بين اسود ولا ابيض ولا بين شريف ولا وضيع ولا بين شمالي ولا جنوبي ولا شرقي ولا غربي ولا بين غني ولا فقير ولا بين عاكف ولا باد ولا بين امازيغي ولا ريفي ولا حساني ولا صحراوي ولا جبلي (بدراري) ولا سهلي(ازخاري) ولا بين رئيس ولا مرؤوس: بل الكل سواسية متماثلين متناظرين في صعيد واحد لا يتفاضلون ولا يتفاوقون الا بالتقوى وصالح الاعمال ومحاسن الاخلاق: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ويتبارى المتبارون ويتفاخر المتفاخرون:
الناس من جهة الخلق اكفاء ابوهم ادم والام حواء
وإن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء
وعلى اية حال، فالعدل، يا ولاة الامور، بدءا من ارباب الاسر والعوائل وانتهاء بالملوك والرؤساء والامراء والحكام ومرورا بمن تحت امرتهم وطاعتهم من وزراء وعمال وقواد ومدراء وغيرهم، هو، اي العدل كلية جوهرية ومركزية من كليات ديننا الاسلامي الحنيف وهو في ذات الوقت امانة جسيمة وثقيلة في اعناق كل مسؤول صغير او كبير سيسال عنها لا محالة امام الله فليتق الله اذن في تقديرها حق قدرها وابراء ذمته من عواقبها قبل فواة الاوان وحلول لحظة الندم فينادي النادم ولات حين مناص اذ:
لكل ولاية لابد عزل وصرف الدهر حل وعقد
واحسن سيرة تبقى لوال على الايام احسان وعدل
اما الخطوة الثالثة (ثالثة الاثافي) فتتمثل في تقدير واحترام الاختصاصات واعتبار واشتراط الكفاءات واختبار اهلية كل مسؤول قبل تفويض الامر اليه وائتمانه على مصالح الناس واستحفاظه على رعاية شؤونهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يضع الرجل المناسب في المكان المناسب ويوصيه بما يعينه على القيام بواجبه دون تجاوز حدود ومجال وظيفته واختصاصه حرصا منه وتحرزا على اصابة الحق والصواب واجتناب الشطط والظلم والزلل الناتج عن الجهل باحكام الشرع وقواعد الافتاء وضوابط القضاء وغيرها من القوانين الفقهية والمقاصد الاصولية والمواد العلمية الواجب توفرها في كل من يتولى سياسة امور الناس ورعاية شؤونهم الخاصة والعامة. ولعل ابرز مثال يوضح لنا مغزى هذا الكلام هو ما رواه الامام مسلم في صحيحه في حديث طويل جاء في اخربنوده ما مؤداه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصى مثلا قواد وامراء الجيش بوصايا خاصة تناسب اختصاصاتهم وتراعي عدم معرفتهم الكافية بالمسائل الفقهية والاحكام الشرعية فيقول صلى الله عليه وسلم لاحدهم: واذا حاصرت اهل حصن فارادوك ان تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة اصحابك فانكم ان تخفروا ذممكم وذمم اصحابكم اهون من ان تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. واذا حاصرت اهل حصن فارادوك ان تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم ولكن انزلهم على حكمك فانك لا تدري اتصيب فيهم حكم الله ام لا. رواه مسلم.
ذلك وانطلاقا مما نستنتجه ونفهمه من مضمن هذا الحديث النبوي النموذجي الشريف نرى ان احترام ومراعاة الاختصاص امر مطلوب بل مفروض ومشروط شرط صحة ووجوب واحقية في كل من يريد تولي امرا ، مهما دق وصغر ، من امور الناس . ورحم الله زمان عمر بن الخطاب القائل : انه من ولى امر المسلمين وجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة واداء الامانة …
والسؤال الذي يطرح نفسه ويفرضها بالحاح في خضم الظروف السياسية والاجتماعية المعاصرة التي تولى فيها من ابوا الا ان يسموا انفسهم ” بالاسلاميين ” وينتحلوا لانفسهم سلطة التحدث نيابة عن الله عزوجل تحت ذريعة تبني المرجعية الاسلامية التي هي من اختصاص العلماء الربانيين المجتهدين العارفين بدلالات النصوص المشتملة على الخاص والعام والمقيد والمطلق والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والعالمين بمدلولات الفاظ ومفاهيم لغة العرب وتصاريفها والمتصفين بالنزاهة والعدالة والضبط والورع والتقوى وخشية الله عز وجل والذين بسيماهم ومحياتهم يعرفون وبمجرد رؤية الرائي لهم يذكر الله ويستحضر عظمته وجلاله في قلبه على غرار ما صوره الشاعر اللبيب من خلال الابيات الجميلة الفذة :
اذا سكن الغدير على صفاء وجنب ان يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك وجوه ارباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم
فاين اولائك اذن من هؤلاء حتى على مستوى التشبيه والمحاكاة ولو من قبيل قول الفرزدق :
اولئك ابائي فجئني بمثلهم اذا جمعتنا يا جرير المجامع والبون بيننا وبينهم شاسع
الا انا نقول فتشبهوا ان لم تكونوا مثلهم ان التشبه بالرجال فلاح .
اجل لقد صدق الفرزدق في قوله ولكن ومن اجل ان يكتمل المعنى وتتضح المقارنة او المقاربة فانه لمن الانصاف بمكان ان نذكر القارئ برد خصمه التقليدي جرير عليه قائلا :
اذ افتخرت باباء بهم كرم نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا…
خلاصة القول وزبدته ان الامة المغربية خاصة والامة الاسلامية عامة لو نجحت (وما ذلك على الله بعزيز) في انجاز هذه الخطوات الثلاث فانها تكون قد قطعت اشواطا طويلة في استمساكها بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والتي لا استغناء لها البتة عن هديها القويم ونورها الوهاج ان هي ارادت فعلا ، حقا وصدقا ، ان يلم شعتها ويجمع شملها ويدفع عنها شر الفتن ما ظهر منها وما بطن في هذا الزمان العصيب الذي يصبح فيه المرء مومنا ويمسي كافرا ويمسي مومنا ويصبح كافرا نسال الله العفو والعافية والمعافاة في الدين و الدنيا والاخرة .
هذا ، وبكل تواضع وموضوعية وصدق وصراحة ، ومن باب التحدث بنعمة الله ، يجدر بي ويحسن ان استرعي انتباه القارئ الكريم لهذه الرسالة الى حقيقة يقينية مفادها ان في الامة والحمد لله من العلماء والكتاب والمفكرين من ذوي الفضل والكفاءة والباع والنفس المعرفي الطويل من هم اولى مني واحق بتناول ومعالجة مثل هذه القضايا الشائكة والكبيرة والصعبة المفصل ثوبها لحساب جثة اطول واوسع من حجمي ، الا ان شيئا في نفسي اشبه ما يكون بالغيرة والانفة على دين الله الاسلام السمح الحنيف الرحيم تابى علي إلا ان ادلي بدلوي في بئر الكتابة على سبيل الهواية الابتدائية فحسب بالرغم من علمي الراسخ بمعنى وحقيقة قولة علمنيها احد الاساتذة الفضلاء قائلا : ما يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يؤلف كتابا او ينظم شعرا .
وعلى كل حال فمثلي ومثل هذا الاستاذ وغيره من الكتاب والمؤلفين المقتدرين المحترفين كمثل ما عناه من قال واجاد وافاد :
كم راينا ممن ليس يعقل قد الهم ما ليس يلهم العقلاء
ومن جنسها او ربما على نقيض مقصودها :
فكم في العرس ابهى من عروس ولكن للعروس الدهر ساعد .
ختاما ، ولمن اراد مزيدا من التوسع والتفصيل في موضوع هذه الرسالة فاني احيله على زيارة موقع رسائلي الالكتروني وبالذات الى الرسالتين المطولتين تحت عنوان : ” في ظلال الله الوطن الملك ” و ” رسائل عدة في واحدة ” . نسال الله العلي المتعالي ان يرزقنا الاخلاص في القول والعمل والسر والعلن وان ينفعنا بما نتلوا وما نقرا وما نكتب وصلى الله وسلم وبارك على محمد واله واصحابه واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
عذراً التعليقات مغلقة