برحيل الأستاذ إبراهيم أخياط تفقد الحركة الأمازيغية قامة نضالية وفكرية لا يجود الزمن بمثلها إلا نادرا، والعارفون بخبايا النهضة الأمازيغية يعرفون حق المعرفة حجم إسهام الراحل في إرساء دعاماتها ورسم أدق تفاصيلها. يوم الأربعاء 7 فبراير غادرنا رجل آمن، كما أكد على ذلك في مذكراته، بأن القضية الأمازيغية في مضمونها وفي فلسفتها هي ثورة ثقافية عميقة وهادئة، ثورة على الأفكار والمفاهيم والسلوكيات الموغلة في احتقار الذات.
غادرنا رجل آمن إيمانا قويا بأنه خلق كي يكون مناضلا من أجل مصالحة المغرب مع ذاته وتاريخه وأمازيغيته، والمطلع على سيرته الذاتية” النهضة الأمازيغية كما عشت ميلادها وتطورها” سيكتشف بأن ذات الراحل ذابت في العمل الأمازيغي إلى حد يستعصي فيه أحيانا الفصل بين أخياط والحركة الأمازيغية. قد يعتقد البعض بأن في الأمر نزوع نرجسي، لكن من ساهموا في العمل الأمازيغي يعترفون بأن مساهمة الفقيد كانت استثنائية وأنه يصعب معرفة متى تبدأ الحياة الخاصة للرجل ومتى تنتهي يومياته النضالية، فبيته شاهد على عشرات اللقاءات التأسيسية، وحياته الأسرية والمهنية ضبطت على عقارب الزمن الأمازيغي الحركي.
الراحل لم يكن فقط أحد المؤسسين المحوريين لأول إطار ثقافي أمازيغي، بل بصم العقيدة النضالية للحركة الأمازيغية بأفكار ثورته الثقافية الهادئة المنشودة وقناعاته التنظيمية المؤسسة على التدرج والقضم وقياس درجة حرارة الوضع السياسي قبل التحرك. فهناك خيط منطقي ناظم يربط بين كل المحطات التأسيسية الكبرى التي بادر أو ساهم الفقيد في التخطيط لها وتنزيلها على أرض الواقع. فتأسيس الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي يوم 10 نونبر 1967 لم يكن سوى اللبنة الأولى في مسار بناء صرح الحركة الأمازيغية، صرح بدأت معالمه تظهر بجلاء مع تأسيس جمعية الجامعة الصيفية يوم 16 دجنبر 1979 كإطار يوحد جهود جميع الفاعلين الأمازيغ المغاربة، ومختبر لبلورة الأفكار والخطاطات التنظيمية اللازمة لتجاوز محنة سنوات الرصاص ومواجهة استهداف الحركة الأمازيغية والإستعداد لاحتمالات هبوب رياح التغيير الديمقراطي على البلد وإمكانية انفتاح النظام السياسي المغربي على الحركات المطلبية. وقد صدقت حسابات الأستاذ إبراهيم أخياط ومن معه من الجيل المؤسس للحركة الأمازيغية، فسقوط جدار برلين أسقط معه أعشاش الديكتاتوريات كما تسقط قطع الدومينو، والنظام السياسي المغربي أطلق، ولو على مضض، النسخة المغربية للإنفتاح على المعارضين والمشاكسين في أفق بناء الديمقراطية المغربية. لقد كانت دورات جمعية الجامعة الصيفية، مند تأسيسها، أشبه بالعمليات الإستباقية استعدادا لما بعد سنوات الرصاص، وكان “ميثاق أكادير” محصلة خمياء ” Alchimie“تلك الدورات المؤسسة على العمل الوحدوي والإنصات للخبراء من أبناء الحركة كل في ميدان تخصصه. وقد توقف الراحل كثيرا في سيرته الذاتية عند مرحلة توقيع ميثاق أكادير يوم 5 غشت 1991، جيث أكد على أنه ” بصدور هذا الميثاق الذي يتوج النضال الفكري والجمعوي لفترة امتدت من سنة 1967، ستدخل الحركة الأمازيغية مرحلة أخرى، هي مرحلة المواجهة الحقيقية مع كل الأطراف المناهضة للخطاب الأمازيغي، لكون الجمعيات الأمازيغية أصبحت لها مرجعية فكرية ومطالب واضحة تخص الدولة والأحزاب زالمجتمع عامة، وأصبحتب بذلك حركة حقيقية ولدت من رحم المجتمع المدني” ص 192.
لم يستعمل الراحل مصطلح المواجهة جزافا، لأن الديناميات التي أطلقتها الحركة الأمازيغية مند بداية التسعينات كانت كلها مواجهات فكرية، اصطدمت فيها قوة حجة الحركة بحجة قوة خصومها، سواء كانوا في يمين المشهد السياسي أو يساره، قوميين أو إسلاميين، محافظين أو حداثيين. لا يمكن أن يتسع المقال لكل المعارك الفكرية والتنظيمية التي خاضتها الحركة الأمازيغية وساهم فيها باقتدار الراحل إبراهيم أخياط، لكننا سنتوقف عند أهمها وأشدها تأثيرا على مآلات الملف الأمازيغي:
1 /التنسيق الوطني بين الجمعيات الأمازيغية ومعارك تحصين الحركة وتقويتها
بعد تزايد إقبال المواطنين والمواطنات على الإنخراط في الجمعيات الأمازيغية وتنامي تأسيس إطارات أمازيغية جديدة، وتأسيسا على الزخم النضالي لميثاق أكادير، نضجت فكرة التنسيق لدى الكثير من الفاعلين الأمازيغ، لينطلق عمل تشاوري توجت أعماله بالإتفاق على بروتوكول التنسيق وانتخاب الراحل إبراهيم أخياط منسقا وطنيا للجمعيات الأمازيغية يوم 19 فبراير 1994. وقد بدأ التنسيق الوطني أعماله بالترافع عبر مذكرة حول المطالب الثقافية الأمازيغية وجهت لكل من الوزير الأول ورئيس البرلمان، سرعان ما ردت عليها الحكومة يوم 3 ماي 1994 باعتقال سبعة مناضلين أمازيغ شاركوا في مسيرة عيد الشغل بالراشيدية، سعيا منها لتخويف الجمعيات الأمازيغية وتشتيث التنسيق الوطني. غير أن العمل التضامني مع المعتقلين، والحماس الدي أججته تلك الإعتقالات في صفوف شباب الحركة، والدور المحوري للتنسيق الوطني في الدفاع عن المعتقلين ومساندة عائلاتهم، سار بالأمور عكس ما كانت يخطط له في دهاليز وزارة الداخلية. فكان خطاب المرحوم الحسن الثاني يوم 20 غشت 1994 إيذانا بإمكانية مراجعة القصر لسياسته حيال الملف الأمازيغي. لقد بصم الراحل بطريقته في الإشتغال العمل التنسيقي الأمازيغي خلال توليه مهام المنسق، وتم تدبير مرحلة حرجة من تاريخ الحركة الأمازيغية بالكثير من الذكاء، بل نجحت الحركة في اختراق الكثير من الأحزاب السياسية عبر تكثيف التواصل بمناضليها من المؤيدين للمطالب الأمازيغية، كما ازداد التواجد الكمي والنوعي للمناضلين الأمازيغ في صفوف الجمعيات المدنية خصوصا الحقوقية منها، وهو ما ساهم في تغيير مواقف تلك الأحزاب والجمعيات من المطالب الأمازيغية في الإتجاه الإيجابي.
2/المعد الملكي للثقافة الأمازيغية ومعارك المأسسة
نجح التنسيق الوطني في الإنتقال بالحركة الأمازيغية من مجرد مجموعات من المثقفين والمبدعين المشاكسين إلى مستوى حركة مطلبية احتجاجية لها أدرعها داخل الجامعة والأحزاب والجمعيات، وقد ساهم هدا النجاح في توفير البيئة السياسية المسهلة لمراجعة الملك محمد السادس لسياسة القصر حيال الأمازيغية، سنتين بعداعتلائه عرش المملكة. وقد كان الراحل أخياط مرة أخرى في قلب الحدث، فرغم رفضه توقيع “بيان من أجل الإعتراف بأمازيغية المغرب” لاختلافه مع صاحبه الأستاذ محمد شفيق حول شكل ومضمون الوثيقة الموجهة إلى الملك، إلا أنه استطاع أن يؤثر في مرحلة ما بعد خطاب العرش يوليوز 2001، حيث كان من المرجعيات التي استند عليها المستشار الملكي المرحوم مزيان بلفقيه في هندسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، قبل أن يتم تعيينه عضوا بمجلسه الإداري. ويجب الإعتراف للرجل بدفاعه المستميث عن الأدوار السياسية التي كان يجب على المعهد لعبها كمؤسسة استشارية إلى جانب الملك، كما أنه ظل متمسكا بحرف تيفيناغ مند ندوة المعمورة سنة 1992 إلى أن تم إقرار الحرف رسميا من طرف المجلس الإداري للمعهد في جلستي 30 و 31 يناير 2003. وقد خاض الراحل معارك أخرى داخل الجلس الإداري للمعهد، لعل أهمها معركة التدريس باللغة الأمازيغية المعيارية الموحدة، إضافة إلى اختلافه مع عمادة المعهد وأمانته العامة حول استراتيجية الشراكة مع الجمعيات، حيث نبه في أكثر من اجتماع إلى خطورة جعل شراكات المعهد مع الجمعيات مجرد عمليات للإستهلاك والإحسان عوض أن تكون عملية للإنتاج وخلق التراكمات لفائدة الأمازيغية، حرصا منه على ترشيد العمل الأمازيغي وتحصينه من كل أوجه التمييع. إلى جانب كل تلك المعارك، ظل الراحل مركزا على ما كان يسميه “أم المعارك” في تأكيد منه على الأهمية القصوى لمطلب دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية، التي بدونها لا يمكن لمأسسة الأمازيغية أن تسير في الإتجاه الصحيح طالما ظلت مجردة من الضمانات القانونية التي يجب أن تسندها وتحصن نتائجها ومكاسبها.
3/معارك ترسيم اللغة الأمازيغية
كان الراحل إبراهيم أخياط من أنشط أعضاء “حركة المطالبة بدستور ديمراطي”، ورغم اختلافه مع الكثير من أعضاءها حول موضوع الهوية واللغة الأمازيغية إلا أنه انتخب لإدارة ورئاسة ندوة الإعلان عن تأسيس الحركة يوم 6 يوليوز 2002. وقد استطاع ممثلو الجمعيات الأمازيغية في هذه الحركة انتزاع مكسب مهم يتمثل في قبول فرقاء المشهد الحزبي والمدني بضرورة تضمين الدستور المنشود قضايا الثقافة المغربية والهوية الوطنية بما يتماشى وحقوق الإنسان، وقد كان ذلك خطوة أولى في مسار بناء شبه إجماع وطني حول مطلب ترسيم اللغة الأمازيغية، خطوة تعززت بالملف المطلبي لحركة 20 فبراير الذي أكد على ضرورة ترسيم الأمازيغية، ليتوج المسار بضامين المادة الخامسة من دستور يوليو2011، التي نصت على أنه تعد اللغة الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء.
لقد شاءت الأقدار أن يباغث المرض الراحل وهو يدبر نشاطا جمعويا بأكادير صيف سنة 2010 ،ليدخل في غيبوبة حالت دونه والمشاركة في الربيع الديمقراطي المغربي لسنة 2011، وحالت دونه ومشاركة شباب 20 فبراير هتافاتهم من أجل ديمقراطية حقيقية بالمغرب تضمن الكرامة والحرية والعدالة للمواطنين والمواطنات وتؤسس لاستقرار ونماء البلاد. إلا أنه ورغم كل تلك الظروف الصحية الصعبة أصر على المشاركة في التصويت على دستور 2011 ولو على كرسي متحرك، مثلما أصر يوم 23 فبراير 2013 على حضور تكريمه وتقديم سيرته الذاتية ” النهضة الأمازيغية كما عشت ميلادها وتطورها”، تكريم حضره الجميع أحزابا وجمعيات حكومة ونقابات، رفاقه وخصومه، وتمثيليات جمعوية أمازيغية تمثل كل الأجيال التي تعاقبت وساهمت في النهضة الأمازيغية التي يعتبر حكيمها، عرفانا من الجميع بمكانة الأستاذ إبراهيم أخياط كعلم من أعلام الثقافة والفكر والنضال الحقوقي بالمغرب.
عذراً التعليقات مغلقة