الأستاذ والباحث محمد همام
استقبلت مدينة الدشيرة، في سهرة صيفية، ابنها الفنان عبد الهادي إكوت ، قائد مجموعة إزنزارن، المجموعة الأمازيغية الأكثر شهرة في المغرب، وسط الأمازيغ وغيرهم، وخارج المغرب. حضرت هذه السهرة وسط ٱلاف الشباب، دون الثلاثين، ودون العشرين، نساء ورجالا، مع وجود فئات عمرية أخرى، من الشيوخ والكهول والأطفال.
شاركت مجموعة إزنزارن في إطار المهرجان الوطني للروايس، من تنظيم الجماعة الترابية الدشيرة الجهادية. أسمع في كل وقت، وسط الجمهور الغفير، يقدر بالٱلاف، المطالبة بصعود مجموعة إزنزارن، حتى إنك تظن، وهو يقين، أن الأغلبية جاءت من أجل مجموعة إزنزارن! فلماذا لإزنزارن هذه السطوة على الجمهور ، ولماذا يملك عبد الهادي هذا السحر؟
أبدأ الإجابة بخلاصة ملاحظاتي التي جمعتها من السهرة ومن مخالطة الساهرين.
-الخلاصة الأولى: كسر الفنان عبد الهادي قاعدة: مطرب الحي لايطرب؛ فقد أطرب حيه/مدينة الدشيرة. واستقبل استقبال الرهبان والقديسين ورجال الدين. الكل يتدافع لأخذ صورة له أو معه، بمايسمح به سوق الزحام والتدافع. وعندما صعد فوق المنصة، تعالت الصيحات، والنداءات، والبكاء، رأيت ذلك وعاينته! فأنت إذن أمام شخص غير عادي في وعي الجمهور وفي تمثلاته. وفعلا، طلع على الساهرين، بالٱلاف، شخص أنيق، وهو الذي اعتاد الاختفاء والتواري عن الأنظار، محاط بالحراس، وبأفراد المجموعة، بلباس متناسق، وقبعة حمراء فاقع لونها، على رأسه! لكن أخذ منه الزمن، وبتقاسيم وجه حزين وقاس. لم تظهر عليه الابتسامة إلا وسط السهرة. وودع جمهوره بصعوبة، أمام إلحاحه بالاستمرار، وبتقديم نصائح للشباب للانصراف الهادئ والمنظم.
– الخلاصة الثانية: كسر عبد الهادي فكرة أن مجموعة إزنزارن استمرار لفن الروايس. وجاءت مشاركة إزنزارن باعتبارها المادة الأخيرة في المهرجان، وهو مخصص لفن الروايس. فأكاد أزعم أن إزنزارن شيء مخالف تماما، مضمونا وشكلا، وتلقيا من الجمهور. فقد كانت حالة إزنزارن في السهرة نسقا قائما بذاته، في الأداء، وفي الموضوع، وفي الموسيقى، وفي اللباس، كل شيء مختلف!
– الخلاصة الثالثة: مازالت الحاجة قائمة إلى نمط تازنزارت، ومازالت مجموعة إزنزارن تحتفظ برابطتها الحميمية والمقدسة مع الجمهور. جمهور يحفظ الريبرطوار المعروف لإزنزارن، بمختلف كلماته، وألحانه، وصيحاته ، وأدعيته… كأنه يحفظ الألواح، ويعيدها أمام الشيخ/النبي للتثبيت، كما في معجم الحفظ والحفاظ.
– الخلاصة الرابعة: مازال الفنان إكوت عبد الهادي يحتفظ بجاذبيته، وسحره، وصوته، وقوته الاستحواذية على المنصة، وحتى قفشاته ذات دور موثث للركح.
ذكرتني هذه الخلاصة الأخيرة بما كنت قرأته عن علاقة الفن بالدين، وعلاقة الفنان بالنبي، وبالراهب، وبالقديس، وعلاقة الطقس الفني بالطقس العبادي، وبالقيم المشتركة بين الفن والدين، وأنهما وجهان لعملة واحدة، هي المطلق، والكمال، والمثال. فهناك رباط وثيق بين الفن والدين، وبين الفنان والقديس، وإلا من الصعب فهم مايحدث بين الفنان عبد الهادي وجمهوره، من الشباب، ومن مختلف الأعمار، كما ذكرنا سلفا. فإذا كان الفن، وفق هذا المنظور، وهو منظور مستلهم من الأطروحة الفلسفية، حول الفن، للرئيس المفكر علي عزت بيغوفيتش، إذا كان الفن صلة بين الروح والحقيقة وبين مصدرهما، وهو الله، فإن كل أغنية، مما تغنيه إزنزارن، مدينة بخاصيتها الفنية إلى الحضور والتوهج والتأثير الموحد لحقيقة غامضة هي: الفن الخالص! وهو فن، أداء صوتي، أو موسيقى، في حالتنا، لايستطيع أداءه، إلا شخص، أصبح هذا الفن هو أسلوب حياته، بل حياته كلها، وأصبح قادرا على الارتفاع به، وأن يرفع عشاقه معه، فوق واقعهم الاجتماعي، وفوق ظروفهم الإنسانية ، كأنه يمارس مهنة مقدسة! فقد لايكون الجمهور عارفا بمضامين وٱفاق هذا النوع من الغناء والموسيقى، على ايقاع تازنزارت، لكنه يمارس شعورا غامضا بالسمو والترقي والتطهر، وهذا ماتقوم عليه الأديان. إن جذر الفن والدين واحد؛ يؤكد الدين على الخلود والمطلق، ويؤكد الفن على الإنسان والخلق، وكلا التأكيدين حقيقة جوانية واحدة.
وقد صدق التاريخ ذلك؛ فالدراما في أصلها طقس ديني، والمعابد هي المسارح الأولى. بل عبرت الدراما، بنظر علي عزت بيغوفتش، عن حقيقة الدين، وعن المشاكل الأخلاقية للبشر، أكثر مما عبر عنها اللاهوت ورجال الدين.
إن الرسم، والتمثال، والأغنية ، والرقصة، جزء من شعائر، في مختلف الحضارات؛ من أفريقيا، إلى الشرق العربي، إلى أمريكا اللاتينية، إلى ٱسيا…
لقد كرر عبد الهادي أغانيه المعروفة، ولكن الجمهور يتفاعل معها كأنه يسمعها أول مرة، وهو الذي يحفظها ويرددها. ما السر في ذلك؟ إنها فن ، معزوفات وأغاني وأداءات ، يؤدى بطريقة تخبرنا ، في كل مرة نستمع لإزنزارن، بشيء يفوق قدرتنا على التصديق وعلى الفهم. كأننا بإزاء رسالة دينية. فالاستماع إلى أغنية من أغاني إزنزارن كأننا ننظر إلى لوحة جبصية يابانية قديمة، أو إلى قطعة من أرابيسك إسلامي ، في مدخل قصر الحمراء بغرناطة، أو إلى رقصة لقبيلة في أوغندا، أو إلى لوحة يوم القيامة لمايكل أنجلو، أو إلى لوحة لبيكاسو، وغيرها. إن الاستماع الجديد هو ولادة جديدة لأحاسيس وذكريات جديدة. إنه شعور مثل شعور الصلاة، لن تخضعه للمنطق الصوري ولا لمقتضيات العقل المادي المجرد، ولكنه شعور ممتع للمصلين.
إن الفنانين والرهبان من طينة واحدة، يجسدون الحقيقة الجوانية، كما يجسدون وحدة الفن والدين. والموسيقى التي يكرر عبد الهادي عزفها فهي تتجدد من خلال شخصيته، وهي في أحد مستوياتها من إلهاماته، ومما يدور في باطنه. وعزفه يتجدد في كل مرة. فقد حكى ( أرثر روبنشتين) أنه عزف سمفونية (بيتهوفن) الرابعة عدة مرات، لكنه لم يعزفها يوما بالطريقة نفسها!
يتحقق هذا الزخم الانفعالي والتفاعلي لأغاني إزنزارن، ولأداء عبد الهادي لأنه فن حقيقي وليس مزيفا ، نابع من عالم الصدق الجواني. هو فن ملهم وليس مصنوعا. إنه فن/نار متوهجة كل الوقت في قلب عبد الهادي وفي جوارحه، وفي داخل العشاق والمتيمين، الباحثين عن السعادة، والهاربين من تعاسة الواقع وقساوته وزيفه! لذلك كان عبد الهادي قديسا، ولذلك كانت أغانيه ألواحا، ولذلك سيظل عشاقه حوارييين ومؤمنين، يحجون إلى سهراته/ معبدهم الذي يتطهرون فيه ويسمون.
الدشيرة الجهادية، السبت30 يوليوز2022.
عذراً التعليقات مغلقة