بعد قرابة شهرين من انطلاق المحاكمات عن بعد في عدد من المحاكم المغربية، وبعد المبادرة إلى تعويض الجلسات الحضورية بالجلسات عن بعد في القضايا الزجرية، من خلال توظيف تقنية التواصل عن بعد visioconférence، وبعد استبعاد نقل السجناء إلى المحاكم للنظر في ملفاتهم، وذلك خوفا من انتشار فيروس كوفيد ــ 19 داخل السجون والمحاكم، أُثيرت العديد من الملاحظات حول شروط المحاكمات عن بعد التي لا تستجيب أساسا لشروط: الحضورية والعلنية، التي تعتبر من المبادئ الأساسية للمحاكمة العادلة.
ففي تقنية التقاضي عن بعد، يتم استبعاد الحوار الحي على حساب المسطرة التواجهية عبر جلسة شفهية يوجه خلالها القاضي الأسئلة للمتهم، ويتلقى الأجوبة، كما أن المحاكمات تصح بوجود شهود الإثبات والنفي، وتبادل الوثائق وملامستها وعرض تقارير الخبراء على كل أطراف الدعوى العمومية والاستفسار حولها ومناقشتها.
كل هذه المسائل غير متوفرة في المحاكمة عن بعد. مما يفقد هذه الأداة التواصلية مقومات الوصول إلى الحقيقة، وقد لا تمكن القاضي من تكوين قناعته الراسخة. لأن التقاضي في المادة الجنائية والجنحية تشترط فيه عناصر التواجهية والحضورية والعلنية. وغيابها يوحي بأن المحاكمة العادلة ما هي إلا إجراءات شكلية قد تتم بأية وسائل من وسائل التواصل، وقد تكون بالهاتف بمختلف أشكال مكالماته. وهو ما يجب تجنبه.
فلست بحاجة إلى استحضار ما تعنيه قواعد المحاكمة العادلة ومبدأ التواجهية والحضورية والعلنية من تشخيص لمبدإ العدالة بتجلياته الكاملة في حوار بين المجتمع (عن طريق النيابة العامة) وأحد أفراد المجتمع (المتهم) الذي قد يكون مذنبا أو مشتبها فيه، ويكون معززا بمحاميه أمام قاضي يسمع بملإ أذنيه، ويتحرك مع وجدان المناقشة ويتفاعل مع ما توفره له العلنية من حوار عميق يمكنه من مسائلة ضميره وتوجيهه نحو إصدار حكم عادل.
أكثر من ذلك، فإن غياب المتهم عن الجلسة يحرمه من التحديق في عين القاضي أثناء تقديم كلمته الأخيرة قبل الإعلان عن قفل المناقشة.
هاته الكلمة الأخيرة التي تكون لحظة تأمل قوية، ينتابها خشوع أمام الحقيقة والإفصاح عنها أو التعبير عن الندم أو التمسك بالبراءة من الذنب أو تلمس العذر أو استعطاف رحمة المجتمع وضمير القاضي أو إعلان موقف حسب الأحوال.
وهذه الأجواء لا يمكن للمحاكمة عن بعد أن توفرها، ولا أن تعوض هذه اللحظة الروحية والوجدانية التي هي لحظة الحقيقة بالنسبة للمتهم ومنبع وجدان القاضي وتفاعله مع ظروف وموقع المتهم الماثل أمامه. ولو كانت هذه اللحظة دقيقة ومحدودة في الزمن، أو سريعة من حيث التعبير، لكنها تحمل دلالة عميقة. لذلك، تعتبر من مقومات المحاكمة العادلة، المكتملة بحضور المتهم، بجانب التواجهية والعلنية.
إضافة إلى أن أجواء المناقشة في الجلسة العلنية والحضورية هي مصدر إلهام دفاع المتهم وسند لمرافعته وقوة فعالة لإبراز حق الدفاع الذي يتمتع به المتهم. وهو ما لا يستقيم أمام التباعد وحذف العلنية واستبدالها بآليات افتراضية جافة لا تسمح بتحريك الإبداع وهز المشاعر أثناء المرافعات.
هذا بجانب، تعبير العديد من المتتبعين عن عدد من التخوفات بشأن شروط المحاكمة العادلة، والصعوبات التي قد تواجه هيئة الحكم والدفاع لتحقيق العدالة، إذ بالرغم من أن هذا النوع من المحاكمات سيُجنب انتشار فيروس كورونا، إلا أنه لا يحل محل المحاكمات المباشرة.
إن التحدث عبر الشاشات السوداء، وإغلاق الميكروفونات أحيانا، ثم إيقاف تشغيل الكاميرات لتجنب التحميل الزائد على الشبكة، ليس أمرا مألوفا داخل قاعات المحاكم، ويوحي بــ “صمت عميق”، وبالشعور غير السار “بالتحدث في فراغ”.
والعديد من الكلمات والتعابـير تأتي على شفاه الكثيرين لوصف هذه الحالة الجديدة والغير المألوفة للتفاعل عن بعد، مثل: “الإحباط”، “التوتر”، “الانزعاج”، “الخوف من الأعطاب التقنية”… منذ أن تحولت المحاكم من الجلسات الحضورية إلى الجلسات عن بعد، بسبب وباء كوفيد 19، رسميا ابتداء من يوم الاثنين 27 أبريل 2020، فكان على قاعات جلسات المحاكم أن تتكيف مع الأمر، قدر الإمكان، وبدون استعداد مسبق لهذا الوضع غير المألوف.
وهذا النموذج من المنتظر أن يستمر في شهر شتنبر، إذا لم يسمح الوضع الصحي بعودة المؤسسات إلى سيرها الطبيعي. وهو ما لا يخلو من صعوبة، حيث من المرتقب أن يتم التحضير لموسم “هجين”، يتم فيه الجمع بين المحاكمة عن بعد عبر الإنترنت والمحاكمة الحضورية. وفي هذه الصيغة يمكن أن تظل الجلسات عن بعد هي الغالبة.
ويولد هذا الاحتمال في صفوف المحامين والحقوقيين قلقا عميقا، وقد لا يحقق التقاضي عن بعد الوصول إلى الحقيقة، لا بالنسبة للقاضي أو النيابة العامة أو الدفاع، بحكم أن المعادلة تظل غير متوازنة، بحضور الطرف المدني والنيابة العامة والشهود، لكن في غياب المتهم.
فكيف يمكن للمحكمة أن توفر شروط المحاكمة العادلة في غياب شروط التواجهية والحضورية والعلنية ؟
يلاحظ الكثيرون أنه مع غياب الحضور المادي للمتهم، وغياب توفير شرط الكلمة الأخيرة للمتهم، يتم تجاهل بعض العناصر الأساسية للمحاكمة العادلة، والتي تعتمد على عوامل نفسية وسيكولوجية مرتبطة بالحضورية والتواجهية، ومقارعة الحجة بالحجة علنا لإثبات وجهة نظر ما، أو دحض رأي ما .. ويتم تجاهل بعض العناصر الأساسية للوصول إلى الحقيقة وتكوين قناعة القاضي.
فجزء غير يسير من عمل القاضي أو النيابة العامة أو الدفاع يعتمد على توجيه رسائل مرتبطة بالحواس، وبالتفاعل اللفظي، والحركي، وعلى إلقاء النظرات، وتبادل الإشارات الغير اللفظية، التي تترجم، داخل قاعة المحكمة، الحالة النفسية والذهنية، للمتهم، والتي تمكن من العثور على فسحات من السكوت والفراغ الذي قد يفضح أو يخون فكرة أو رأيا مسبقا… وهذا كله من المستحيل ملامسته عن بعد.
الحاجة إلى تكريس مقاربة القرب
يشعر العديد من الفاعلين داخل قاعة المحكمة (القضاة، المحامون، …) المحرومون من الينابيع المعتادة لجذب الانتباه، بتآكل الرابط بين عناصر الاتهام والدفاع والحكم، باعتبار أن المشاركة والتفاعل داخل قاعة المحكمة يعتمدان على الروابط التي تم تطويرها وتغذيتها وإغناؤها عبر التواجهية والحضورية والعلنية.
والمتهم شخص يكون في وضع هش في مواجهة باقي أطراف الدعوى، وهو في حاجة إلى التزام مهني وإلى اهتمام خاص، وإلى أن يكون قريبا من دفاعه. والذي يمثل ويجسد وجها من وجوه الارتباط والقرب figure d’attachement.
وقد تختفي الابتسامات ورسوم الملامح عبر تقنية التواصل عن بعد، وقد لا تجد الفكاهة والهزل والإشارات الخفيفة المرتسمة على المحيى مكانا لها عبر الأنترنيت، وقد تميل الحكايات الشخصية والروايات والاستدلال بالأمثلة إلى الاختفاء في الشبكة العنكبوتية … وهي كلها عناصر مهمة تساعد على بناء الروابط وتقوية العلاقة وترسيخها، وهي من أسباب ارتفاع معدل الثقة في العدالة. وهي من العوامل التي تحرك وجدان وقناعة القاضي.
ومع المسافة الكائنة بين المتهم وقاعة الجلسات، ومع البعد والتباعد، فــــ “الجزء البشري والإنساني” من مهمة العدالة وإظهار الحقيقة قد يتبخر، فحتى حرارة اللقاء مع الزملاء، والحديث المتبادل قبل وبعد الجلسات، تستجيب لشعور بالحاجة إلى التواصل الإنساني. ولكن، منذ بداية الحجر الصحي، تكون جلسات المحاكمة قد فقدت مذاقها وطعمها. فالحديث أمام لوحة افتراضية، وأحيانا أمام شاشات سوداء لا يعطي انطباعا مريحا.
ويمكن تقويض تجربة المحامي بأكملها، وتقزيم وظيفة الدفاع، وحرمانها من المواجهة مع الآخر. وقد لا يرى المتهم إلا وجوهًا مألوفة داخل المؤسسة السجنية خلال مدة الحجر. ومع الانتقال إلى التواصل عن بعد، قد تختفي وجوه تمامًا في غياب الروابط. ومن الصعب الحفاظ على الدافع والحافز في ظل هذه الظروف، ومن الصعب الحفاظ على الحماس كذلك .. وهو ما قد يغرق المتهم تدريجيًا، ومعه العديد من أطراف الدعوى في وضع من القلق والاكتئاب.
تواصل يزداد تعقيدا
قد يكمن الخطر في إثارة شعور حقيقي بالإهمال وإحساس بالتخلي، ومن المرجح أن يذكي لدى المتهم والدفاع، على حد سواء، الشعور بعدم الثقة تجاه المؤسسة القضائية.
فالحضورية والتواجهية رديف الثقة والتفاعل. وقد لا يلجأ المرء إلى المحكمة فقط للبحث عن الحقيقة، أو للمطالبة بحق مسلوب، بل يبحث هناك كذلك عن “مجموعة من النماذج المثالية” وعن “مجموعة من الأدوار التوجيهية” التي قد يتعاطف معها أو يرفضها.
وأن فن الترافع والتواجه عبر عناصر الحضورية والعلنية تولد أوقاتا صاخبة، وأوقاتا مليئة بالفراغات، … والتي قد تبدو غير ضرورية، لكنها تساهم بشكل كبير في تغذية عملية تحديد تلك النماذج المثالية وصقلها. ويتجسد ذلك على وجه الخصوص حول المهنيين الذين يجسدون، من خلال صفاتهم الشخصية، الانضباط أو المهنية أو الالتزام الأخلاقي المطلوب.
فنكاد لا نجد، في التواصل عن بعد visioconférence، هذه اللمسة من “الفوضى”، أو هذه “اللمسة الخيالية”، والتي عادة ما تتدخل وتتفاعل داخل قاعات الجلسات في المحاكم.. وتجسد الجانب العاطفي aspect émotionnel .
فعلى عكس الجلسات التباعدية عبر الإنترنت، فالجلسات الحضورية تنبني على سياق معين، يمزج بين: أجواء القاعة، والبيئة الحضورية، ودرجة حرارة القاعة، والضوضاء الطفيلي، وصوت المحامي والقاضي، وغيرهم … وكل هذا سيشكل فضاء مواتيا للترافع ولمقارعة الحجة بالحجة: وهي ذاكرة السياق mémoire contextuelle، التي يساهم الفعل الحضوري، في تهيئة فضاءات أداءها، على شاكلة خشبة مسرح مهيئة للترافع المقبول أو المثالي .
وهو فضاء يصعب إيجاده، وبيئة يصعب إعادة إنشائها، عندما يكون التواصل الأساسي معقدًا من خلال الاتصال عن بعد.
أولاً:
لأنه خلال هذا الحجر الصحي، غالبا ما ينقطع الاتصال بالسجن، أثناء مناقشة قضية ما، نظرا لضعف صبيب الإنترنيت، مما يولد مجموعة من “المعاناة الرقمية” بحيث، أن المتهم في ملف جنائي قد لا يرى من الهيئة إلا رئيسها، دون غيره، كما أنه لا يرى دفاعه، ولا يسمع دفوعاته ولا مرافعته، أو أن المتهم لا يسمع إفادات الشهود، إلا إذا حل الشاهد محل السيد الرئيس بمقعده، لكي تصله إفادات الشاهد، وهذا الأمر غير ممكن.
ثانيًا:
لأن هذا التحول إلى النظام الرقمي قد غير قواعد التواصل وركائزه داخل قاعات المحاكم. فالتواصل الرقمي بتشعباته يغير في العمق المعرفة المرتبطة بكيفية إظهار وإبراز الصورة التي نريد أن نعطيها لغيرنا، ويغير عناصر البرهنة عبر الإنترنيت.. وهو أمر مربك وغير واضح في الوقت الراهن. مع العلم، أنه خلال انعقاد القضايا الجنائية والتلبسية الجاهزة، وبعد استحضار كل مبادئ وضمانات المحاكمة العادلة، وطبيعة تلك الملفات، وما تقتضيه من عناية خاصة، تتضح حتمية وضرورة المخابرة المباشرة، سواء مع المعتقل أو عائلته.
وتزداد الأمور صعوبة، عندما تضطر إدارة المحاكم للكفاح من أجل السيطرة على الأدوات الرقمية، في سياق تم فيه التأسيس للمرور والعبور من “الحضورية” إلى “الغيابية” بشكل متباين وغير منسجم، وبدون معدات وبدون تدريب أو تكوين مسبق.
فهذه المساحة التواصلية الجديدة، المتاحة للمحاكم المغربية، تتطلب بالفعل من الممارسين والفاعلين في حقل العدالة، إعادة التفكير بشكل جذري، في العلاقة مع الجلسات، وإعادة إبداع نسق وتفاعل جديد … وهذا كله يحتاج إلى موارد.
وفي ظل، تعاظم الثقل والعبء الإداري لمنظومة العدالة، والصراع والتجاذب بين قضايا تهم تحقيق الأمن القضائي وحماية حريات الأفراد والجماعات وتطبيق القانون تطبيقا سليما وناجعا، لا يمتلك الفاعلون في حقل العدالة جميع الوسائل والآليات والأدوات، لتحقيق طفرة نوعية، حتى لو كانت فقط مؤقتة ومحدودة، للانخراط في المحاكمات عن بعد بهذه الطريقة.
ففي هذا العالم الرقمي، يمكن أن يطفو الإنزعاج وسوء الفهم والارتباك بسرعة إلى السطح، من جانب الدفاع، ولكن أيضًا من جانب القضاة والنيابة العامة… لافتقار المؤسسة القضائية إلى آليات وأدوات وبروتوكولات للتعامل الآني والتفاعلي مع الصعوبات الفردية، وليدة الممارسة اليومية.
الحاجة إلى “موجهين”
فإذا كانت فترة الحجر فترة ثقيلة وضاغطة على المستوى العاطفي في مجال التربية والتكوين، وقد تساعد هذه الشحنة العاطفية، في بعض الحالات، على توطيد الروابط بين مختلف الفاعلين في حقل التعليم، فإن الأمر لن يكون كذلك في مجال العدالة، لأن الهفوات والارتباكات في المجال البيداغوجي والمعرفي قد يمكن استدراكها وتداركها، لكن الهفوات والإخفاقات في مجال العدالة عواقبها وخيمة، خصوصا لما يتعلق الأمر بمحاكمات جنائية . وفي ذات الوقت، فإن مجال العدالة هو مجال أحوج إلى العاطفة، لارتباطه بالحريات ومصير الإنسان.
فلا غرابة إذن، أن يتعرض تنزيل نظام المحاكمات عن بُعد لانتقادات من لدن عدة هيئات للمحامين ومن طرف كتابة الضبط، بسبب غياب المقاربة التشاركية، خاصة وأن المشاورات التي تم القيام بها، تمت بشكل مستعجل، ولم تشمل هيئات المحامين ولا هيئات كتابة الضبط، كما لم تشمل الجمعيات المهنية للقضاة وكذا الجمعيات الحقوقية، رغم إعلان هيئات مهنية أخرى عن ترحيبها بالمبادرة.
وأن اعتماد تقنية التقاضي الإلكتروني، ولو كان في الظرفية الراهنة يبقى محكوما بظروف استثنائية، فإنه يتطلب مستقبلا تدخلا تشريعيا، لتأكيد مبدأ الشرعية الذي يشمل حتى الإجراءات المسطرية، ثم لوضع ضوابط التقاضي الإلكتروني وإرساء قواعد خاصة به. ويثير سؤالا حول الإمكانية المتاحة لكل متهم أم مشتبه فيه أثيرت الدعوى العمومية في حقه، بأن يواجه مصيره مطمئنا، وهو أمام ميكروفون أو جهاز كاميرا أو شاشة سوداء، وأمام شبح المحكمة، وتجريده باسم الرقمية والتكنولوجيا من حقوقه كاملة، المشروطة بقواعد المحاكمة العادلة.
عبد اللطيف أعمو – 03 يوليو 2020
عذراً التعليقات مغلقة