تعتبر دراسة المناخ بجميع مكوناته من المواضيع التي استأثرت باهتمام المؤرخين الأوربيين منذ ثلاثينيات القرن العشرين مستفيدين من توفر المادة المصدرية، ففسروا على أساسه مجموعة من الجوانب المظلمة في التاريخ الأوربي، بيد أن الدراسات المغربية لا تتجاوز دراستين أساسيتين وهي دراسة حميد التركيي و روزنبرجي ودراسة محمد الأمين البزاز، وقد استفدنا من هذه الأخيرة كثيرا في إعداد هذه المقالة.
تجدر الإشارة، أن المصادر التاريخية لا تسعفنا كثيرا في تتبع الفيضانات بالمغرب منذ الفترة القديمة، غير أن القرنين التاسع عشر و العشرين يتميزان بوفرة المادة المصدرية، ورغم كونها لا تغطي كل المجال المغربي فقد أمدتنا بإشارات مهمة حول الفيضانات وتأثيرها الاجتماعي و الاقتصادي. ويتخذ الفيضان في المصادر التاريخية مسميات مختلفة: المطر المسترسل –السيول الجارفة– أمطار طوفانية… وغالبا ما يأتي بعد فترات طويلة من الجفاف والقحط والأوبئة ومعظمها تأتي في شهر مارس. فقد أقيمت في فاس صلاة الاستسقاء 16 مرة سنة 1750م. فجادت السماء بأمطار طوفانية وحسب وصف القادري في “نشر المثاني” فقد “أغرقت الأرض وأودت بالبهائم “. وبعد مجاعة 1776م تهاطلت أمطار غزيرة في فصل الشتاء في نواحي الرباط فهدمت الكثير من المنازل وأودت بحياة العديد من الأشخاص غير أن مصادرنا لم تذكر عددهم كما لم تشر إلى مجال انتشار وامتداد هذه التساقطات المطرية الكثيفة وأثارها في باقي المناطق.
كثيرا ما تؤدي الفيضانات إلى ارتفاع الأسعار وعرقلة المواصلات فثمن القمح كان 40 ليرة لكل 12 كلغ ثم أصبح 50 حتى وصل إلى 56 ليرة حسب أحد الأجانب. أمام هذا الوضع عانى الفقراء من الجوع فمات عدد كبير من الناس جوعا في مراكش واضطر الآباء إلى التخلي عن أبنائهم للمحسنين.
وشهد خريف 1824م موجة قاسية من البرودة وأمطار طوفانية “فوق ما تعتاده العقول”، فصاحب التذكرة يصف فاس قائلا “فاحتملت أوديتها من السيل ما لا يعلمه إلا الله وانحدرت على وادي فاس عند افتتاح العدوتين، عدوة الأندلس وغيرها، وصلها بعد العشاء على حين غفلة من أهلها فأغرق ما بها من الديار والأسواق… ومات من الخلائق العدد الكثير”.
أما سنة 1802م. فكانت كثيرة المطر في الجنوب، حيث عرفت تزنيت سيلا جارف، وتصفه إحدى التقاييد السوسية: “جعل الله عليهم وعلى جميع هذه البوادي المطر الكثير حتى نظن أن الدنيا تغرق بالماء وكثر الهدم وسمي الناس هذا العام بأبي خربان -أي صاحب التخريب- فكل شعبة تستحيل واديا وكل واد يعود بحرا بالماء وذلك كله عجائب وغرائب…”، وصاحب الرعد والثلج في 15 شتنبر 1867م السيل الجارف بنفس المنطقة فهدم 40 دارا بوجان.
وفي شتاء سنة 1878 أمطرت السماء بغزارة بعد سنة طويلة من الجفاف فقد كتب قنصل فرنسا بالدار البيضاء “منذ زهاء 12 يوما والأمطار تتهاطل بغزارة على طول السواحل، فارتوت الأرض بعد أن كانت تحترق ظمأ للماء”.
ويعتبر فيضان مارس 1890 م، خطيرا حيث استمرت الأمطار لمدة 20 يوما متتالية ففاضت الأودية وخرجت عن مجراها الطبيعي، جارفة الأشجار والبهائم ومهدمة للدور وكان عدد الضحايا في فاس ما بين 85 و 100 ضحية. ولم تمر سوى سنتين لتعاني كل مناطق البلاد من تهاطل أمطار وابلة صاحبتها رياح الشركي فذابت الثلوج ليخرج وادي سبو عن مجراه الطبيعي جارفا قرى متعددة ودمر واد زيز عدة قرى بتافيلالت وتسبب في خسائر كبيرة في الأرواح.
ويصف محمد المختار السوسي فيضان تزنيت سنة 1944 قائلا: “وكذلك وقعت غريبة ذلك النهار في تزنيت فقد انسد مخرج الوادي. فتراجع الماء نحو الديار مرتفعا، حتى هدم 75 دارا. وقد فسد كل ما فيها من الأثاث والحبوب. ولكن الله حفظ السكان لوقوع ذلك وسط النهار فتجارى الناس، فأخرجوا صبيانهم خوضا في المياه. والناس الآن في هرج ومرج من بناء دورهم وترميمها. وهذا أيضا شيء لم يقع قط في تزنيت ولا أثر عن عهودها المتقدمة “أمام توالي الفيضانات نتساءل عن بعض الآليات التي واجه بها الإنسان المغربي الفيضانات.
لقد وجد الإنسان المغربي في التفسير الغيبي ملاذا آمنا لتعليل مختلف الظواهر الطبيعية فاعتبر الفيضان، كالكوارث الأخرى، عقابا إلهيا لخروجه عن التعاليم الدينية وانتشار الفساد وتبنى السلاطين والأمراء نفس الموقف في رسائلهم وخطبهم فحثوا الرعايا على التصدق وزيارة الأولياء. وهذا لا يعني استسلامه للفيضانات بل يتهيأ لها بإعداد ما يسمى “بإفرض” في مناطق توقف المياه أثناء التساقطات المطرية، وهو حوض مائي شاسع غير مغطى تستعمل مياهه لإرواء البهائم وغسل الملابس. وتم تخصيص ضفاف الأودية للزراعة الفصلية كالشعير الذي ينبت عادة في فصل الصيف. وبالموازاة مع ذلك ، يشيدون بالقرب من كل الشعب “مطفيات” لخزن المياه وتتعدى قدرتها التخزينية، حسب إحدى الدراسات الفرنسية لسنة 1940م، حوالي50 متر مكعب، علاوة على مخازن جماعية “إكودار” في قمم الجبال لخزن الثروات والموارد الغذائية والمطمورات والأهراء.. كانت هذه الممارسات تتم في إطار تعاوني وتضامني قبل وقوع الجائحة المائية وتوازيها تصرفات مماثلة بعد الفيضانات يلعب فيها الصلحاء والفقهاء والشيوخ دورا مركزيا .أما بالنسبة للسلاطين فلا تمكننا مصادرنا التاريخية من تتبع تصرفاتهم إزاء الفيضانات سواء زمنيا أو مجاليا، بيد أن العواصم والمناطق الشمالية استأثرت بتدخلاتهم والتي تتمحور أساسا في توزيع الإسعافات على المنكوبين والإذن للتجار باستيراد الأقوات من الخارج مع تحديد الأرباح كما فعل السلطان عبد الرحمان بن هشام .
إجمالا يمكن القول أن الانسان المغربي كان يعيش دائما في رهان مع الطبيعة معتمدا ثلاث آليات أساسية: التضامن والمحلية والأخذ بعين الاعتبار أثر الفيضانات في نظامه الاجتماعي والاقتصادي مما سمح له بمواجهتها في كثير من الأحيان.
المصادر والمراجع المعتمدة :
محمد المختار السوسي، خلال جزولة 4، المطبعة المهدية، تطوان، (د.ت)
محمد المختار السوسي، خلال جزولة 2، المطبعة المهدية، تطوان، (د.ت.)
محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب خلال القرنين 18 و 19، منشورات كلية الاداب بالرباط، 1992.
De La Boissière, monographie des Ahl Tiznit, mémoire dactylographie daté de Mars 1940, Archives Diplomatiques de Nantes.
Bernard Rosenberger et Hamid Triki, famines et épidémies au Maroc aux 16 et 17 siècles,in :HespérisTamuda,v.15,fasc.unique, éd.tachniques Nord Africaines, Rabat, 1974
عذراً التعليقات مغلقة