لم يعد إحياء هويتنا الثقافية، مجرد درباً من دروب إحياء التراث الحضاري في ذاكرة الأمة.. بل بات ضرورة ملحة من أجل البقاء.
الهوية.. هي الخصوصية الذاتية .. هي ثقافة الفرد – لغته – عرقه – عقيدته – حضارته و.. تاريخه.
وتعرف الهوية الوطنية بمجموع السمات والخصائص المشتركة التي تميز أمة أو مجتمع أو وطن معين عن غيره، يعتز بها وتشكل جوهر وجوده وشخصيته المتميزة، وبالتالي فإن الوظيفة الأساسية للهوية.. هي حماية الذات الفردية والجماعية من عوامل الذوبان والفناء.
والحقيقة أنه وبدون معرفة المفهوم العلمي لمصطلح الهوية كما ذكره العلماء …. فنحن كمواطنيين عاديين قد أدركنا ومنذ عقود من الزمان أن هويتنا الثقافية، وقيمنا الروحية تتعرض للخطر؛ نتيجة للغزو الثقافي الغربي الذي صار كالطوفان ليس في استطاعة أحد المكوث أمامه، وكان يجب مجابهته ببدائل ثقافية وطنية ذات قيمة وجودة تجذب الشباب وتؤثر فيه، قبل أن ينبهر بالنموذج الغربي الأكثر إبهاراً وجذباً، فالانفتاح على الثقافة الغربية لا يعني الذوبان فيها وفقدان ذاتنا، وحتى لو كان قد فُرض علينا هذا النموذج فرضاً .. فإنه صار يهدد، أو يكاد يمحو ثقافتنا ويعصف بثوابتنا، بعد أن أصبح هذا النموذج هو المسئول عن تعليم شبابنا وتثقيفهم وتوعيتهم وإطعامهم وإلباسهم وإمتاعهم وتسليتهم.
وعندما أتحدث هنا عن الهوية …… أقصد هويتنا المصرية والعربية والإسلامية، والتي تتلاحم وتتداخل في انسجام بديع، ويحاول كل طرف الإمساك بالطرف الآخر، ولا أجد أي تعارض أو تصارع بين هذه الهويات وبعضها البعض، فنحن نعتز بكل هذه الانتماءات ……. وبالطبع قد يحتاج هذا الحديث بحوثاً كثيرة وكتباً ذات فصولاً متعددة، وقد تستغرق هذه الدراسات أياماً و …… شهوراً أوسنيناً، وقد ينتهي بنا العمر قبل أن ينتهي بنا المطاف في محاولة لتوثيق هذه الهوية (والتي أثرت على العالم بأسره).
ولا ريب في ذلك … وكما ذكر المفكر والأثري جيمس هنري برستد في كتابه فجر الضمير، أن مصر هي المصدر الأصلي لكل حضارات الإنسانية، وتكوين ثقافة العالم ووضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير ……. ويقول برستد في كتابه، أنه يتحتم على شباب العالم العربي أن يقرأ هذا الكتاب، وبالفعل فقد تركت الحضارة المصرية القديمة بالإضافة للآثار العظيمة …… تراثاً زاخراً من العلوم والفنون والآداب، وسجلت على جدران معابدها وعلى ورق البردي المبادئ والقيم الإنسانية …… ولكن الحضارة ليست حجراً فقط نتباهى به أمام العالم، ونجلب من ورائه الدولارات كمصدر من مصادر دخلنا القومي، الحضارة يجب أن تكون في فكر ووجدان وضمير كل مصري، تكسبه الثقة في الذات والاعتزاز بالنفس، ويستلهم منها إسلوب حياته وطريقة تفكيره.
كما قدمت الحضارة الإسلامية الأساس الأخلاقي للتعامل بين البشر، عندما بعث الله خاتم المرسلين، النبي الصادق الأمين محمد عليه الصلاة والسلام برسالة الرحمة والعدل والمساواة والتسامح والسلام والمحبة والحرية، والحكم بالشورى لتكون منهجاً متكاملاً للعالمين …… هذه القيم النبيلة التي يتباهى الغرب بها الآن هي تعليمات صريحة وواضحة، أمرنا بها رسولنا الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وظلت الحضارة الإسلامية المنهل الذي ينهل منه الغرب علومهم لقرون عديدة، وساهم العلماء العرب والمسلمون إسهامات عديدة في الحضارة الغربية، ويواجه الإسلام الآن عدواناً ظالماً من أبناء عقيدته سواء ممن يسيئون إليه بأعمالهم الإرهابية وأفكارهم المتطرفة، أو ممن يتجرأون عليه تسفيهاً وتشويهاً.
وثقافتنا كجزء أصيل ولا يتجزأ من مكونات هويتنا الأصيلة تواجه روافدها تحديات شتى، فبالنسبة للتعليم: فقد أدى فشل التعليم الحكومي لتخريج أجيال فاقدة للوعي والانتماء ذات عقول خاوية لم تتعلم ما يؤهلها لسوق العمل، ولا تفقه شيئاً عن تاريخها وحضارتها فباتت لا تثق في نفسها ولا تحترم ذاتها ولا تقدر تاريخها، وتحول التعليم لمشروع تجاري بحت واختلط الحابل بالنابل، وأدى فشل التعليم الوطني الذي يعتمد على التلقين، ولا ينمي الشخصية ولا يشجع على الابتكار والإبداع؛ لرواج نظم تعليمية أجنبية ذات جودة، وتلقى أبناؤنا ثقافات مختلفة إنبهروا بها وتفاعل معها بعض الأبناء مهزوزي الشخصية الوطنية فضعف انتماؤهم وتأثرت هوياتهم، ولم تعد لغة القرآن الكريم لغتنا الجميلة، اللغة العربية مصدراً للفخر والاعتزاز للكثير من الشباب، وصاروا يتحدثون لغات أخرى غير لغتهم الأصلية، وبات هذا المكون الأساسي لهويتنا يتعرض للنبذ والتشويه، ولفراغ الساحة الثقافية والمستوى الفني الردئ، وغيبة إعلام ذات رسالة إيجابية وطنية وتنموية …. أتحنا الفرصة لهذا الغزو من تحقيق أهدافه، وانصرف الشباب للثقافة الغربية التي أدت لتشويش النظام القيمي لهم، يتابعون فنوناً غربية، ويشاهدون قنوات فضائية ذات أهداف دنيئة، ويتابعون مواقع التواصل الاجتماعي التي تنشر الأكاذيب والشائعات بهدف تضليلهم وجعلهم يتشككون في وطنهم ويفقدون هويتهم.
حدث هذا بالرغم من أنه في العصور التي خضعت فيها مصر للاحتلال والاستعمار والذي استمر قروناً عديدة، حافظت مصر على شخصيتها القومية ولم تفقد هويتها، بالرغم من محاولة هذا المحتل تشويه هذه الشخصية وتغيير تلك الهوية.
وكان علينا أن نأخذ ما يناسب قيمنا وثقافتنا الأصيلة فقط، وما لا يشوه شخصيتنا المصرية المتميزة، ولا يفقدنا ذاتنا أو يضر بهويتنا، ولذلك فعلينا الآن ألا نكل أو نمل في الدفاع عن هويتنا وخصوصيتنا ومواجهة الهيمنة الثقافية الغربية، ليس فقط شعارات ولكن علينا توفير بدائل ثقافية وطنية راقية وجاذبة وزهيدة الثمن ….. تحترم العقل وتسمو بالروح وتهذب النفس، وتواجه هذا الفضاء الخارجي المفتوح الذي قد يدمر الشخصية المهزوزة المشوشة غير الواثقة في ذاتها أو معتزة بنفسها، الشخصية التي لا تعرف ماضيها العريق ولا تعتز برموزها الوطنية …. فلا يجب الاستهانة والاستخفاف ….. بالعدوان على ثوابت الأمة والتخلي عن هويتنا.
إن أسباب القوة التي تأخذ بها الدول للنهوض والتقدم، ليست حلقات مفرغة بل هي سلسلة متصلة ومحكمة، والحفاظ على الهوية والاعتزاز بالذات وإعلاء قيم المواطنة، وتحفيز مقومات الشخصية المصرية وبعث الثقة في النفس، هي من أهم هذه الأسباب التي تدفع بالوطن للأمام، فالشباب هم عماد المستقبل وتتقدم الدول بسواعد مواطنين واثقين بأنفسهم معتزين بذاتهم فخورين بهويتهم محبين لوطنهم.
عذراً التعليقات مغلقة