أحمد الطالبي : …والعفو يا مولانا …

الوطن الأن29 أكتوبر 2016آخر تحديث :
أحمد الطالبي : …والعفو يا مولانا …

.. إختلطت الإيقاعات في ذلك الفضاء المملوء بالخيام ، كثير من الناس يدخلون و يخرجون ، والبحر من الجهة الأخرى هادئ ، لايبدي مشاكسة و لا عنادا ، حركة الناس على الكورنيش كالعادة مملة روثينية ، يغدون و يروحون بلا معنى ، إنه طقس المشي لحظة الغروب هناك ، ينظرون إلى بعضهم البعض و يثركون الشمس تحتفل بغروبها في صمت ، وربما سخرت منهم وهم يغربون في دواخلهم و ينكمشون ….
الذين يجلسون على الكورنيش ، ينظرون إلى الجهة المعاكسة للبحر، يتبادلون مع المارة نظرات مستفزة ، ملؤها الفضول ، و أنا على الرمال أمشي و النوارس فوقي تجوب الأفق، بعض قوارب الصيادين تؤدي رقصتها على إيقاع الموج الهادئ ، وهناك بعيدا بعيدا تتراءى لك أخيلة البواخر ، تظهر حينا و تختفي آخر ، سعدت بذلك المنظر، و أنا أتتبع احتفالية الغروب على إيقاع تدرج لون الشمس من الأصفر إلى ما يشبه لون الحب و الحزن و الموت … ثم لا شيء بعد ذلك سوى الإنسلاخ السلس لليل من رحم النهار ، وفق الناموس الإلاهي الأزلي : كن فيكون …
و ما زال الناس على حالهم على الكورنيش ينظر بعضهم في بعض دون معنى ..
و ما زالت الإيقاعات تختلط ، والليل يرخي سدوله على الشاطئ.. تخف الحركة قليلا ، و يغادر الناس زمرا و أفواجا ،جدبتني الإيقاعات المختلطة تلك ، مزيج من الكناوي و الهواري و العيساوي ، أسرني الإيقاع ، فولجت الفضاء لآخذ حصة من الجدبة …
أحسست بجسدي يخف وغيرت إيقاع سيري حتى ساير بعضا من تلك الإيقاعات ، دون أن يلاحظ المارة ، لكي لا يفسدوا علي لحظة الإنتشاء بنظراتهم الغريبة المستفزة …
ولجت الفضاء ، كانت مجموعة من الكناوة المحلية ترقص على إيقاعات منسجمة و متناسقة للطبول و القراقب ، وكان اثنين منهم يضبطان ذلك التناسق الجميل و يغيران من إيقاعه صعودا و هبوطا بواسطة بنديرين كما في رقصة أحواش، في ما يشبه تقنية الميكساج …
تهاويت من الداخل ، تابعت الإيقاعات بكل وجداني ، إستمتعت لبضع لحظات ، تواصل الإيقاع منسجما ، وقفت وحدي و الناس يمرون ، يدخلون تلك الخيام المنصوبة و يتصفحون المعروضات ، بعضهم يشتري و بعضهم يكتفي بالنظر و في أحسن الحالات يستفسر و يغادر الخيمة و يلج أخرى …
و ما زال الإيقاع ينساب في شراييني و أستمتع به كما العطشان في جوف الصحراء يشرب ماء عذبا زلالا ، إسترخيت و أنا واقف ، شعرت و كأني سامفونية تعزفها روحي لروحي و لا أحد يسمعها سواي …
هكذا كان حالي عندما سمعت إشارة غيرت إيقاع الرقصة ، فصاحت المجموعة دفعة واحدة : و العفو يا مولانا و العفو …
و العفو يا مولانا ، لازمة غنائية كناوية تختزل قرونا من القيود و العذاب و القهر و ظلم البشر لبعضهم بعض ، إنحنى الصف الأمامي من المجموعة متقدما ، فتخيلت السياط تنزل على ظهورهم ،و أقدامهم ترفل في قيودها مع جلجلة صوت القراقب ، تقدمت المجموعة ثم تراجعت ، يقودها إيقاع البندير ، وتصدح الحناجر: و العفو يا مولانا ، والسياط تجلدهم من فوق ..
و بإشارة تشبه ضربة ساحر ، إنقطع الإيقاع و غادرت المجموعة الفضاء ، وتركت آذاني يجلجل فيها صوتها المشبع بالحزن و المرارة والقهر : و العفو يا مولانا ..
غادرت بدوري ، وقفت أرقب قوافل سيارات فارهة تغادر ، ينطلق أصحابها الغلاظ الحمر السمان بعنجهية وغرور كبيرين ، يمرون أمام طوابير من الذين ينتظرون الحافلات ليتكدسوا فيها و يشمون روائح بعضهم البعض ويجرون أطفالهم بعصبية ، فعاد ذلك الصوت إلى أذني من جديد وا العفو يا مولانا ..
تكدس الناس في مواقف الحافلات بالعشرات ، والليل يظلم و يسدل ستائره ويلف كل شيء .. تصايحوا ، تشاججروا وهم يصعدون مزدحمين مخافة أن يتأخر بهم الوقت و لا يجدون من ينقلهم ، و ما زالت السايارات الفارهة تمر أمامهم بسرعة البرق دون اكترات : والعفو يا مولانا ، بعضهم يتحايل لكي لا يؤدي ثمن التذكرة عن بعض أبنائه الذين إصطحبهم قهرا إلى الشاطئ ، والعفو يا مولانا ، يتحيايل لربما استطاع أن يوفر ثمن محراشتين للعشاء .
و أنا من بعيد أرقب ، رأيت باحة الفندق الكبير المطل على الشاطئ تمتلئ، والناس في صخبهم ذكورا و إناثا يشربون و يدخنون ، كأنهم بشر آخر و في بلد آخر ، والعفو يا مولانا …
عدت إلى الكورنيش ، أخرجت جريدتي ، فما قرأت غير أخبار الفساد و الإستبداد ، والقهر و الظلم ، والشطط ، ونهب المال العام وووووووو… و العفو يا مولانا ، ومن تلفاز المقهى يصدح صوت مقدم وصلة إشهارية انتخابية ، متحدثا عن ديمقراطية مزعومة مخادعة مناورة منافقة مزيفة ، داعيا الناس إلى التسجيل في اللوائح و التصويت في اقتراع شتنبر ، والعفو يا مولانا ..
و على إيقاع أغنية والعفو يا مولانا ، يتسلل الوطن خلسة إلى جيوب الأغنياء و إلى أرصدتهم هنا و هناك ، والعفو يا مولانا و العفو..
تذكرت أنني ودعت الشمس قبل قليل ، فضربت لنفسي موعدا للقائها مجددا لعلها تأثيني- وهي تشرق في الغد- بخبر جديد يغير ما أنا فيه …
وااااااااااااااااااااااااااااااااا العفو يا مولانا ، يصدح بها الكناوي نيابة عن كل المقهورين ، و من أعلى يأتي صوت آخر يقول للمفسدين المستبدين لصوص الوطن : عفا الله عما سلف ، الوطن مباح لكم وحدكم ، دون غيركم ، ولا صوت يعلو على صوت الحكومة ، صوت الظلم والقهر و الإستبداد ، صوت حكومة عفا الله عما سلف .. ….
ربق ربق ربق ربق ربق …………… ربق ربق ، يرتفع الإيقاع ، ترتفع السياط لتهوي على طهورنا جميعا ، يعلو صوت الظلم و القهر …
وا العفو يا مولانا ، أغنية أزلية نجز بها ظلمات ليلنا الطويل ، في انتظار شروق شمس جديدة …
و ا العفو يا مولانا …..
وا تفو على بلاد يحكمها الفساد و الإستبداد ……
……..الطالبي …………………

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة