التطبيع مجددا :حين يبرأ صاحب القرار ويحاسب المنفذ، وماذا لو فرض على الحزب مجددا، ماذا هو فاعل؟
فالتطبيع، كغيره من القرارات الكبرى في المغرب، يبرز مرة أخرى المفارقة البنيوية التي تبرأ فيها ساحة صاحب القرار الحقيقي، بينما يحاسب من يجد نفسه في موقع المنفذ لا موقع المقرر. وحين يثار الجدل حول توقيع الاتفاق الثلاثي، فإن السؤال لا يتعلق فقط بما وقع آنذاك، بل بما هو أبعد: ما الذي سيحدث لاحقا إذا تكرر المشهد نفسه؟ وماذا بعد التطبيع؟
العثماني، الذي وجد فجأة في قلب العاصفة، هو شخصية معروفة بمناهضة التطبيع منذ شبابه. ألف في ذلك، وشارك في مبادرات وطنية ودولية ضد الاختراق الصهيوني، ودافع بوضوح عن الحق الفلسطيني في إقامة دولته، وظل لسنوات من أبرز الأصوات السياسية في المغرب التي واجهت الصهينة والتطبيع. لذلك كان توقيعه على الاتفاق الثلاثي لحظة مربكة، ليس له فقط، بل لتيار بكامله كان يعتبر التطبيع خطا أحمر. وقد صرح غير ما مرة بندمه على ذلك التوقيع، وذكر أنه لم يُستشر ولم يخبر مسبقا، بل وجد نفسه مجبرا على التوقيع على قرار اتخذ خارج الحكومة ودوائرها الطبيعية.
غير أن الإشكال الحقيقي يكمن في عدم امتلاك قيادة الحزب حينها الجرأة الكافية لرفض حضور مراسيم التوقيع، حتى تتحمل الجهة المسؤولة مسؤوليتها كاملة. فالتطبيع في تلك النازلة لم يكن ناتجا عن قرار حكومي، بل كان جزءا من مشهد سياسي أوسع تتخذ فيه أغلب القرارات الحاسمة كما هو الشأن في قضايا التعليم والصحة والتشغيل والاقتصاد والاستثمار والقضايا السيادية، وغيرها، خارج المؤسسات التي يفترض بها أن تقرر. ومع ذلك، يوجه الرأي العام والإعلام سهام النقد إلى الحكومة، لأنها الواجهة التي تظهر للناس و”الحيط القصير” ، رغم أنها في مثل هذه الملفات لا تكون صاحبة القرار ولا صانعة الخلفيات.
إن ما وقع يوم التوقيع لم يكن سوى مثال واضح على هذا المسرح السياسي الذي تنسب فيه المسؤولية للواجهة التنفيذية، بينما يبقى الفاعل المركزي بعيدا عن المساءلة. العثماني وقع من موقع المنفذ، لا من موقع المقرر، وتمت المناداة عليه في اللحظات الأخيرة دون إشراك حقيقي، كما يقول هو نفسه. لكن المشكلة أن قيادة الحزب آنذاك لم تتملك شجاعة الرفض، فوقع ما وقع، وتحمّل الحزب وحده كلفة قرار لم يصنعه.
هل كان الخوض مجددا في موضوع التطبيع خطأ؟ لا أرى ذلك. فالتصريحات المتأخرة لبعض أعضاء الأمانة العامة السابقة ، وصمت العثماني عن التوضيح والتفاعل، كشفت أن هناك معطيات لم يكن يعلم بها حتى بعض قادة الحزب، وأن تفاصيل مهمة بقيت خارج علم مؤسسات الحزب التنظيمية. ولذلك فإن العودة إلى الحدث هو محاولة لفهم العتمات التي رافقت تلك اللحظة المفصلية، ولمعرفة أين حدث الخلل: هل في آلية القرار، أم في ضعف التقدير السياسي، أم في غياب خطوط حمراء واضحة داخل الحزب؟
لكن مهما تكشفت من حقائق حول الماضي، فإن السؤال الحقيقي الذي ما تزال قيادة الحزب اليوم تتهرب منه هو: ماذا لو عاد الحزب إلى رئاسة الحكومة أو شارك فيها؟ ماذا سيفعل إذا وجد نفسه مرة أخرى أمام قرار تطبيعي يُفرض من فوق؟ هل سيكتفي بدور المنفذ كما حدث سابقا، أم سيضع خطوطا واضحة لا يقبل تجاوزها؟ وهل يملك اليوم الشجاعة المؤسسية للانسحاب من الحكومة إذا طُلب منه تمرير خطوات مشابهة؟
ما وقع قد وقع، والتاريخ سجل تلك اللحظة بما لها وما عليها، لكن مستقبل الموقف لم يحسم بعد. والناس لا يريدون تبريرات للماضي بقدر ما يريدون وضوحا للمستقبل. يريدون معرفة ما إن كانت مؤسسات الحزب قادرة على اتخاذ قرار مبدئي، مكتوب وواضح، يحول دون تكرار السيناريو نفسه. ذلك وحده هو الذي يمنع أن يُتجرأ على الأحزاب والمؤسسات المنتخبة مرة أخرى، ويضمن أن موقف الحزب إذا وُضع تحت ضغط مماثل، لن يكون مفاجئا ولا مرتبكا، بل معروفا مسبقا للجميع: للقيادة، للقاعدة، وللمواطنين.
وعلى كل حال فإن طفو موضوع التطبيع والعلاقات مع الكيان إلى سطح النقاش العمومي وتبرم الجميع منه وتجريمه لم يكن ليحدث لولا بركات طوفان الأقصى الذي بيّن بشاعة الاحتلال الصهيوني وأحيى القضية الفلسطينية من جديد وأعادها للواجهة، وإلا لمرت واقعة التطبيع ببرودة تامة بدون نقاش ساخن ولتجرأ الكثير من الوزراء وربما حتى من العدالة والتنمية آنذاك في ربط العلاقات مع الكيان المحتل تحت ذرائع متعددة أبرزها المصلحة الوطنية والوحدة الترابية وإكراهات المواقع والمسؤوليات…
لكن الطوفان أسقط جميع الأقنعة ووضع الوجوه أمام مرآة الحقيقة والواقع


















Sorry Comments are closed