لن أقدم، هنا، تعريفا للبلطجة، وأكتفي بالإحالة على مقال سابق بعنوان “البلطجة والابتزاز ملة واحدة” (محمد إنفي، موقع “أخبارنا” بتاريخ 18 غشت 2017). ورغم أن هذا المقال قد كتب في سياق وحول موضوع لا علاقة لهما بـبنكيران، إلا أن عنوانه ينطبق عليه تماما؛ ذلك أنه يمارس باستمرار البلطجة والابتزاز في السياسة، لدرجة أنها أصبحت عنصرا طاغيا في شخصيته.
ويكفي أن يتكلم بنكيران لنكتشف هذا الجانب وعناصر أخرى من شخصيته. فكلما تكلم إلا ويؤكد أنه إنسان “مبلوز”، كما نقول في لغتنا العامية؛ أي أنه لا يقيم وزنا للياقة واللباقة في الكلام . فهو يتجاوز كل الحدود حين يجادل أو يخاصم؛ بحيث لا يضع في الاعتبار الأعراف البروتوكولية والمؤسساتية ولا يحترم واجب التحفظ الذي يفرضه الموقع الذي يوجد فيه أو الذي تقتضيه طبيعة التحالفات التي يعقدها حزبه…وكأن التداعيات المحتملة لتهوره في الحديث، لا تعنيه في شيء.
ونظرا لوضعه الحالي واعتبارا لطبيعة شخصيته المُحبَّة للسلطة والظهور والبحث عن الأضواء، فقد تكون هذه التداعيات مقصود إحداثها لتحقيق هدف سياسي شخصي، من قبيل الانتقام للذات أو تصفية الحسابات الشخصية أو السياسية مع هذه الجهة أو تلك أو مع هذه الشخصية أو نلك؛ ناهيك عن الرغبة في إثبات الوجود وإعلان رفضه للركون للتقاعد السياسي، الخ. ويكون، في كل هذا، حضور البلطجة “الخطابية” والسياسية بهذا القدر أو ذاك.
لقد سبق لي أن كتبت، على هذا الكائن الغريب حين كان رئيسا للحكومة، العديد من المقالات ، كان أغلبها بسبب خطابه الشعبوي المنحط، المتسم بالرداءة والضحالة، في شكله ومضمونه؛ خطاب يمتح من قاموس اللغة السوقية ومن عوالم المخلوقات الخرافية ويركب صهوة التهريج والمزايدات والبهرجة لدغدغة العواطف واستدرارها، بغض النظر عن السياقات والمقامات. وهو أسلوب فُرجوي يغطي به على خوائه الفكري وفقره المعرفي وضيق أفقه السياسي وعجزه التدبيري.
ومن المؤسف والمقلق أيضا، فكريا ومعرفيا وثقافيا، أن يرى جزء من “النخبة الفكرية والإعلامية” وثلة من “ممتهني” التحليل السياسي، في بنكيران نموذجا تواصليا ناجحا، وكأن التواصل مطلوب لذاته، أو كأن الشعبوية و”البلطجة الخطابية” هي المطلوبة والمرغوبة في رجل السياسة، وليس الحكمة والتبصر والرصانة وبعد النظر…بالإضافة إلى العمل الميداني المثمر والمنتج للثروة المادية واللامادية، بدل إنتاج الفقر والتخلف وضرب المكتسبات، كما كان يفعل صاحبنا.
لقد كان بودي أن لا أتحدث مجددا عن هذا الرجل بعد أن انتهى مؤسساتيا (غمة.. وانزاحت !!، بتعبير إخواننا المشارقة. وما أكثر من أحسوا بالراحة، بعد اختفائه من المشهد السياسي الرسمي)، إثر فشله في تشكيل الأغلبية الحكومية وتسببه، بعناد وغباء، في تعطيل مصالح البلاد والعباد لأكثر من نصف سنة. ولذلك، لم تغرني الكتابة عنه، سواء خلال مناوراته للظفر بولاية ثالثة على رأس حزبه أو بعد فشله في هذا المسعى وتجرعه لمرارة الهزيمة.
لكن خرجته الإعلامية الأخيرة، في مؤتمر شبيبة حزبه، لم تكن لتتركني دون رد فعل، نظرا للمستوى الأخلاقي المنحط والسافل الذي ميز خطابه في هذا المؤتمر. لقد أبان السيد بنكيران عن علو كعبه في الخطاب السياسي المتسم بالرداءة والتفاهة والضحالة والسفه والسفالة والوقاحة…بهدف إحداث الفرجة واستجداء التصفيقات. وهذا ليس لا بجديد ولا بمفاجئ.
ويكفي أن يتكلم بنكيران، من أي موقع كان، “لتراه”على حقيقته. وأستعمل، هنا، كلمة “تراه” بالمعنى الذي يقصده الحكيم سقراط في قولته المشهورة ” تحدث حتى أراك”. ومعنى هذا أن كلام الإنسان مرآة تعكس طبيعة شخصيته و تكشف مكنون نفسه ونفسيته. وبتعبير آخر، فإن حديث المرء عنوان له ومُعبِّر عنه، بحيث يمكن معرفة شخصيته ومستوى أخلاقه من طريقة كلامه.
ونجد، في واحد من الأمثال الشعبية المغربة، ما يفيد هذا المعنى، وينطبق تماما على أخينا حين يهاجم خصومه: “السفيه كينطق غي بلي فيه”. أما في الأمثال العربية الفصيحة، فنجد، كمقابل للمثل الشعبي المغربي، المثل التالي:”كل إناء بما فيه ينضح” أو “يرشح”.
وأشير، هنا، إلى أنني قد نشرت، في 17 مايو 2015 بموقع “تطوان بلوس”، مقالا بعنوان “بنكيران إناء ينضح بما فيه”، جاء في مطلعه: ” شخصيا، لم يعد يفاجئني أي موقف أو أي كلام من رئيس حكومتنا الذي قلت عنه وأعيد بأنه غير جدير بالاحترام؛ وذلك لسبب بسيط هو كونه لا يحترم نفسه ولا يحترم المؤسسة التي يرأسها. . وقد وضحت ذلك في مقال سابق بنفس العنوان (“رئيس حكومة غير جدير بالاحترام”)”. ولا بأنس من الإشارة إلى أن المقال المذكور عنوانه بين هذين القوسين، قد نشر بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” يوم 6 مايو 2015.
وحتى يعرف القارئ بأن ما أقوله عن بنكيران اليوم، هو ما قلته بالأمس، ليس تكرارا، بل تأكيدا لعدم سَوِيَّة أخلاق الرجل، أورد هذه الفقرة من مطلع هذا المقال: “ليس هذا حكما مسبقا وليس تجنيا أو افتراءا على رئيس الحكومة؛ كما أنه ليس شتيمة أو قذفا في حقه؛ بل هو مجرد تسجيل لواقع، تؤكده كل تصرفات وأقوال الرجل. لا نحتاج إلى تأويل كلامه لتقويله أشياء يستحق عليها عدم الاحترام. فهو الذي لا يحترم وضعه المؤسسي والبروتوكولي (الرجل الثاني في الدولة)، حين يركب البذاءة والسفاهة والوقاحة والرداءة والضحالة…بكل تجلياتها، في مواجهة خصومه السياسيين، سواء داخل مؤسسات الدولة (البرلمان كمثال) أوفي خطبه بالساحات العمومية ( التجمعات الحزبية والنقابية). ومن كان هذا هو ديدنه، فكيف يمكن احترامه؟”
وبما أن رئيس الحكومة السابق، في خطابه أمام شبيبة حزبه في مؤتمرها الوطني، قد خص الاتحاد الاشتراكي وكاتبه الأول، الأستاذ إدريس لشكر، بغير قليل من قلة الأدب وقلة الحياء المعروفة عمن كان يحتل المنصب الثاني في الدولة، بحيث كال للاتحاد ولكاتبه الأول الكثير من الشتائم والسِّباب والتنابز بالألقاب، فلا بأس من العودة إلى الكتابة عن هذا الكائن السياسي الغريب والذي ليس له لا مواصفات رجل الدولة ولا أخلاق مرجعيته المزعومة ولا حتى الحد الأدنى من الأخلاق العامة المتعارف عليها.
ولمن يشك في نفاق بنكيران وازدواجيته وسوء أخلاقه، أحيله على التسجيل الأخير الذي يروج هذه الأيام في الفايسبوك ويظهر فيه على طبيعته الحقيقية: النفاق في أجلى صوره. ويتجلى هذا النفاق في التناقض الذي يقع فيه بنكيران حين يتحدث بسوء عن السيد عزيز أخنوش: فبعد أن كان يكيل المديح المفرط لهذا الأخير، لم يجد غضاضة في الانقلاب على كل الأوصاف التي كان يطلقها عليه وأصبح يتهجم عليه ويذمه ذما بأسلوبه المعهود؛ لا لشيء إلا لكونه تحالف مع الاتحاد الاشتراكي وبقي وفيا لهذا التحالف.
وهذا الأمر ليس جديدا في مسار بنكيران؛ فقد فعل نفس الشيء مع السيد حميد شباط. وبما أن هذا الأخير، هو من طينة بنكيران، فقد كان له نفس السلوك تجاهه، قبل أن يجد كل منهما في الآخر الحليف الأمثل، فأصبحا “سمنا على عسل”، بعد انتخابات 2015. لكن عزيز أخنوش أفسد لهما السمن والعسل معا، بعد انتخابات 2016.
يرفض بنكيران الاعتراف بغبائه السياسي (أتحدث عن السياسة وليس على الانتخابات التي ليست إلا جزءا من العملية السياسية) وبفشله في تدبير المشاورات الحكومية؛ الفشل الذي كانت له تداعيات داخلية تهم حزب العدالة والتنمية وتداعيات وطنية ودستورية، تمثلت في إعفائه وتكليف زميله في الحزب، الدكتور سعد الدين العثماني، بتشكيل الحكومة.
ورغم كل هذا، يستمر بنكيران في ركوب خطاب “المظلومية” والبحث عن مشجب (أو مشاجب) يعلق عليه أخطاءه وأسباب فشله. وما هجومه على السيد عزيز أخنوش والأستاذ إدريس لشكر، إلا تجليا من تجليات هذا الخطاب.
صحيح أن لهذين الرجلين فضلا كبيرا في إراحة المواطنين من بهلوانيات وسخافات بنكيران(وهذا وحده كاف لرفع القبعة لهما تحية واحتراما)، التي كانت تملأ فضاءات الإعلام العمومي والخاص. لقد نجحا في وضعه بموقعه الحقيقي بفضل الصرامة المبدئية والوفاء للعهد المبرم بين مكونات تحالف الأربعة، في انتظار أن تقوم مزبلة التاريخ بدورها في الموضوع. لكنهما ليسا مسؤولين على غباء الرجل وعلى محدودية أفقه السياسي وطبعه المزاجي الذي جعله يعطل عمل المؤسسات الدستورية ويضر بمصالح البلاد والعباد. وهذا هو السبب الحقيقي لإعفائه من رئاسة الحكومة بعد فشله في مهمة تشكيلها.
فلا داعي، إذن، للبحث عن شمَّاعة (أو شماعات) يعلق عليها أسباب فشله. لقد سقط القناع عن خطاب المظلومية وعن ادعاء الطهرانية وعن شعار محاربة الفساد وما إلى ذلك من الادعاءات والشعارات التي يدغدغ بها العواطف ويضلل بها البسطاء والمخدوعين من المواطنين.
لقد اعتقد بنكيران أنه أذكى من إدريس لشكر، حين طلب من هذا الأخير أن لا يتم الإعلان رسميا على ما تم الاتفاق عليه في لقائهما الأول، في إطار المشاورات الحكومية؛ ألا وهو مشاركة الاتحاد الاشتراكي في الحكومة. لقد كان موقف الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي واضحا وإيجابيا؛ خاصة وأنه كان مفوضا من طرف الجهاز التقريري للحزب من أجل تدبير التفاوض في هذا الشأن مع رئيس الحكومة المعين.
ولما فَطِنَ الأستاذ إدريس لشكر، بذكائه السياسي وخبرته الميدانية، لموقف بنكيران المريب فيما يخص مشاركة الاتحاد في الائتلاف الحكومي (وقد أثبتت الأحداث صحة قراءة الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للأوضاع وسداد موقفه)، بحث عن حلفاء يواجه بمعيتهم غطرسة وعنجهية بنكيران وخبثه الظاهر والباطن تجاه الاتحاد، فتولَّد عن هذا حلف الأربعة بزعامة السيد عزيز أخنوش.
ومن ثمرات هذا التحالف، ترشح الأخ الحبيب المالكي لرئاسة مجلس النواب. وقد كان مرشحا وحيدا، كما نعلم؛ ذلك أن ترشيحه وضع حدا لكل الاحتمالات بسبب وضوح الخارطة السياسية. فالحزب الأول، مثلا، لو قدم مرشحا ضد الحبيب المالكي، كان سيبوء بالفشل، لكون مرشح تحالف الأربعة كان سيضمن بالضرورة أصوات الأصالة والمعاصرة؛ والهدف، هو قطع الطريق على مرشح غريمه العدالة والتنمية. وهكذا دواليك.
ولم يكن بإمكان بنكيران، المحدود التفكير والمغرور بعدد المقاعد التي حصل عليها حزبه، أن يقرأ الوضع جيدا ويُعدَّ السيناريوهات الممكنة لمباشرة المفاوضات على أساسها. ويبدو أن ترشيح المالكي قد لخبط كل الحسابات التي كانت تتفاعل في رأس بنكيران وصحبه، رغم أن الأستاذ لشكر أخبره منذ اللقاء الأول أن للاتحاد الاشتراكي مرشحا لرئاسة مجلس النواب (ويحق للاتحاد أن يفخر ويعتز بما يقوم به الأخ الحبيب الملكي على رأس المؤسسة التشريعية. إنه يشرف بلادنا، كما يشرف حزبنا).
وأعتقد أن الخرجة الإعلامية الأخيرة لبنكيران، التي أراد من خلالها أن يعود للأضواء ويحدث فرقعة في المشهد السياسي، ما هي إلا حركات مذبوح، كما يقال. فالرجل لم يعد لا في العير ولا في النفير: فلا هو مسؤول في الدولة ولا هو مسؤول في حزبه، إلا ما كان من المسؤوليات السابقة. وخرجته الإعلامية الأخيرة تسيء لحزبه وللحكومة التي يقودها، أكثر مما تسيء للسيدين أخنوش ولشكر ولحزبيهما (التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية).
ولولا الخوف من اعتبار كلامي تدخلا في الشؤون الداخلية (وهو أمر نربأ بأنفسنا، في الاتحاد الاشتراكي، عن الخوض فيه، خلافا لما يفعل البعض وعلى رأسهم بنكيران) لحزب العدالة والتنمية، لتصورت أن التشويش الذي يحدثه بنكيران على حكومة الدكتور العثماني سيجعل، ولا شك، قيادات العدالة والتنمية وأجهزته التقريرية تراجع حساباتها مع بنكيران ومواقفه المضرة بالحزب وبمؤسساته.
وفي كل الأحوال، فإن بنكيران يشكل استثناءا بين رؤساء الحكومات والوزراء الأولين الذين عرفهم المغرب منذ الاستقلال. فهو، من جهة، ينفرد بخرق واجب التحفظ الذي دأب على احترامه كل المسولين الأولين الذين سبقوه (أقصد الذين احتلوا المنصب الثاني في الدولة)؛ ومن جهة أخرى، فهو يكاد يكون لوحده، في نظري المتواضع، أسوأ رئيس حكومة عرفته البلاد. لقد قضى ولايته الحكومية (خمس سنوات) في الصراعات الهامشية؛ تارة مع أطراف في الدولة، إما بهدف الابتزاز أو بهدف ترويج خطاب المظلومية باسم التماسيح والعفاريت؛ وتارة أخرى، مع حلفائه (أو البعض منهم) أو مع المعارضة التي كان لا يتورع عن أخذ مكانها وممارسة مهامها وكأنه ليس هو الذي يرأس الحكومة؛ في حين أن مهامه الحقيقية كان يهملها بسبب عدم الكفاءة، بحيث تراجع المغرب، في عهده، على كل المستويات .
أليس هذه بلطجة من نوع آخر؟ أليس الإجهاز على المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والثقافية… التي حققها الشعب المغربي بفضل تضحياته الجسام، من أخطر أنواع البلطجة؟ أليس تهميش دستور 2011 وإفراغه من نفسه الديمقراطي والاشتغال بروح دستور 1996، هو بلطجة موجهة ضد حركة 20 فبراير الشبابية وضد كل الذين ساهموا في جعل الدستور المغربي دستورا متقدما؟ أليس الاقتصار، في السنوات الأولى من الولاية الحكومية، على إخراج قانون تنظيمي واحد (هو القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب السامية) لزرع أعضاء العدالة والتنمية في دواليب الدولة، هي البلطجة بعينها، خاصة حين نعلم أنهم أصبحوا بالمئات؟…؟…؟
فهل بلادنا لا زالت قادرة على تحمل البلطجة السياسية والشعبوية السخيفة أم أنه قد حان الوقت لتطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في كل المجالات وعلى كل المستويات؟
عذراً التعليقات مغلقة