إلى السيد رئيس الحكومة وإلى كل من يهمه الأمر:
هاهنا تذكير، نظنه مفيدا! فهل لا زال هناك إيمان تنفع معه الذكرى؟
السيد رئيس الحكومة، بعد التحية البروتوكولية الواجبة،
أود، بكل وطنية ومواطنة وبكل مسؤولية سياسية وأخلاقية، أن أنبه سيادتكم (ومن خلالكم كل من له صلة بدواليب القرار) إلى أن ما تتخذه حكومتكم من قرارات وما يتفاعل في المجتمع بسببها من تحركات احتجاجية ومطلبية – غالبا ما تتبعها ردود أفعال رسمية غير ملائمة وغير دستورية- يجعل ذاكرة الذين هم من جيلي تعود، بكل أسى وأسف، إلى الأجواء التي كانت سائدة في سنوات الجمر والرصاص؛ وهو أمر مقلق حقا، سياسيا واجتماعيا وحقوقيا، بسبب ما نلحظه من الإجهاز على المكتسبات وما يتم تسجيله من التراجع على كل المستويات.
وأخطر ما الأمر، السيد الرئيس، هو الاستهانة والاستخفاف(بعنجهية وعناد وسوء تقدير…) بعوامل الاحتقان والتوتر والتذمر والقلق والغضب… التي تطبع الوضع الاجتماعي الحالي؛ وهو ما يجعله قابلا للانفجار في أية لحظة.
لقد سبق لبلادنا، خلال ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص، أن عاشت أحداثا درامية ودامية (لا أعتقد أنكم تجهلونها) تركت جروحا غائرة في ذاكرة الشعب المغربي؛ وهي أحداث ما كان لها أن تقع لو حظرت الحكمة وبعد النظر بدل التهور والانصياع لإملاءات المؤسسات المالية الدولية وبدل اللجوء إلى العنف في مواجهة المطالب والاحتجاجات الاجتماعية.
وبالنظر لأسلوب الحكومة الحالية في مواجهة المشاكل الاجتماعية (استعمال أسلوب الردع وسياسة العصا الغليظة، بمعناها الحقيقي والمجازي، صم الآذان تجاه المطالب الاجتماعية…)، فإنه لا يسعني إلا القول: “ما أشبه اليوم بالأمس !!!”، خاصة وأنكم، السيد الرئيس، تصرون على تأزيم الوضع (اقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا…) ولا تبالون بالعواقب. وهذا ما دفعني إلى التفكير في التذكير (لعل الذكرى تنفعكم وتنفع غيركم من أجل تدارك الوضع قبل أن يقع ما لا تحمد عقباه) ببعض الأحداث الأليمة والمؤلمة التي خلفت الضحايا بالآلاف بسبب سوء التقدير والتدبير.
ولنبدأ بأحداث مار س 1965: باختصار شديد، فقد سالت يوم 23 مارس بشوارع الدار البيضاء أنهار من الدماء وأُزْهِقت أرواح المئات من المتظاهرين (دون الحديث عن الاعتقالات بالجملة والخسائر المادية الكبيرة)، أغلبهم في عمر الزهور، على يد قوات الأمن والجيش. وكل ذلك بسبب منشور حكومي يقضي بتوقيف المسار الدراسي للعديد من التلاميذ لاعتبارات عمرية (ألا تغامر الحكومة اليوم بتأجيج الغضب الشعبي وهي تدفع بآلاف الشباب إلى مقاطعة التكوين والخروج إلى الشارع بسبب مرسومين لا يجوز، قانونيا ودستوريا، تطبيقهما على الأفواج الحالية؟).
وفي يونيو 1981، عرفت شوارع المدينة العملاقة نفسها (لم تكن الأحداث بالمدن المغربية الأخرى بنفس الخطورة) حمام دم كبير، ذهب ضحيته المئات من المواطنين بسبب التدخل العنيف واستعمال الرصاص الحي(دون الحديث عن الذين قضوا اختناقا في المعتقلات بفعل الاكتظاظ المفرط) من قبل القوات العمومية في مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت يوم 20 يونيو بمناسبة الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل احتجاجا على الزيادات المهولة التي قررتها الحكومة (بضغط من المؤسسات المالية الدولية) في مواد الاستهلاك الأساسية، حيث وصلت الزيادة إلى 76 % في الزبدة و50 % في السكر، مثلا؛ وأقل زيادة كانت في حدود 14 % في مادة الحليب. ولن تتم مراجعة هذه النسب المهولة إلا بعد أن حدث ما حدث.
وفي يناير 1984، اندلعت انتفاضة “الجوع والكرامة” بمدن الشمال والشمال الشرقي (الناظور، بركان، الحسيمة، تطوان…) وكذا مراكش. وأعتقد أن الاسم (“الجوع والكرامة”) الذي أطلق على الانتفاضة يغني عن الحديث عن أسباب اندلاعها. وقد شكل يوم 19 يناير الحدث البارز في مسلسل الأحداث التي عرفتها المدن المذكورة، حيث تميز بقوة التدخل في حق المواطنين العزل من قبل مختلف الأجهزة؛ وقد خلف ذلك التدخل مأساة إنسانية حقيقية لما طبعه من قتل واعتقال واختطاف ووحشية أسفرت عن مقابر جماعية.
ألا نعيش مع حكومتكم، السيد الرئيس، نفس الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي سادت بالبلاد خلال الثمانينات من القرن الماضي؟ ألسنا مهددين من جديد بكارثة التقويم الهيكلي؟ ألا تعمل هذه الحكومة، بما تعتبره إصلاحا، على تردي الأوضاع الاجتماعية واستفحال مظاهر الفقر والهشاشة؟ ألا يُنتج “إصلاحها” غير ارتفاع الأسعار وتفشي البطالة واتساع الفوارق الاجتماعية…؟
ولم يكن مطلع التسعينات من القرن الماضي بأفضل من مطلع الثمانينات. فالأحداث التي عاشتها مدينة فاس يوم 14 دجنبر 1990 لم تكن تختلف كثيرا عن سابقاتها، سواء من حيث الأسباب والدوافع أو من حيث المخلفات والخسائر البشرية والمادية. وقد اندلعت الانتفاضة على خلفية الإضراب العام الذي دعت إليه كل من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب.
وقد ساهمت الأوضاع الاجتماعية – التي كانت تعيشها هوامش وأحواز مدينة فاس وكذا الأحياء الشعبية وسط المدينة- في تأجيج الأحداث التي ووجهت بقمع رهيب، استعمل فيه الرصاص الحي والدبابات؛ كما تمت محاصرة أحياء شعبية بكاملها(باب فتوح وباب الخوخة وعين النقبي وسيدي بوجيدة وعين هارون، وعوينة الحجاج والليدو وظهر المهراز).
السيد رئيس الحكومة، لقد تعمدت، في مخاطبتكم، التذكير بهذه الأحداث المؤلمة وبالأسباب المباشرة التي كانت وراء اندلاعها، لعل هذا التذكير يصادف عندكم قدرا من الحكمة والتبصر وحسن التقدير والتدبر.
حذار، السيد الرئيس، من الغرور ومن الاستهانة بعظائم الأمور! فالاعتقاد أو الزعم بأن الشعب المغربي راض عن قراراتكم، كما تتبجحون بذلك باستمرار، فيه استفزاز غير مقبول لكل الفئات الاجتماعية المتضررة(من عمال وموظفين وطلبة، بمن فيهم الطلبة الأطباء والطلبة الأساتذة، ومعطلين وتجار وغيرهم) التي تخرج إلى الشارع للاحتجاج على غياب الحوار وعلى المساس بالحقوق المكتسبة وعلى ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتجميد الأجور واستفحال البطالة واستشراء الفساد… فهل كل هؤلاء ليسوا من الشعب؟ وهل تعتقدون أن تلك الأصوات التي حصلتم عليها في الانتخابات كافية للحديث عن الدعم الشعبي، حين يتعلق الأمر بجيوب المواطنين وقدرتهم الشرائية؟ (مع العلم أن تلك الأصوات لا تمثل إلا أقلية ضئيلة بالنظر لعدد السكان الذي يناهز 34 مليون نسمة وبالنظر لعدد المواطنين البالغين سن التصويت والذي يفوق 20 مليون).
رجاءا، لا تلعبوا بالنار ! فكل الانتفاضات اندلعت بفعل شرارة. والحريق، حين يندلع، يأكل الأخضر واليابس. فلا تغامروا باستقرار البلاد وأمنها الاجتماعي، إرضاء لهذه الجهة أو تلك أو إرضاء للنفس والغرور الشخصي والحزبي. كفا بلادنا ما عاشته من انتفاضات ومن أحداث اجتماعية مؤلمة. فللهم إني قد ذَكَّرْت ! مصداقا لقوله تعالى: “وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”(وقد علق بعضهم قائلا: “والكفار أيضا”).
عذراً التعليقات مغلقة