لم يكن غريبا أن تهب موجة جديدة من الاحتجاجات الشبابية في بلادنا، فالأسباب التي فجرت “الربيع الديمقراطي” قبل أكثر من عقد ما تزال قائمة، والجروح لم تندمل بعد. من كان يظن أن التاريخ قد طوى صفحته، فقد أخطأ التقدير، فالربيع لم تعالج أسبابه وخميرته التي فجرته ، بل ظل كامناً في المنعرج ينتظر الشرارة، ويعود متى ما توفرت شروطه.
لقد أسيء فهم جيل Z؛ اتهم بكونه “جيل الفيسبوك” أو “جيل طوطو” الفارغ من المعنى. لكن الأحداث أثبتت أن هذا الجيل الذي وُلد في قلب ثورة الرقمنة، أكثر وعيا مما يتصور، إذ يعيش يوميا قضايا العالم وكأنها جزء من همومه: من طوفان الأقصى وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية أمام تواطؤ القوى الكبرى، إلى أوكرانيا ونيبال، وصولا إلى أزماته المحلية التي بلغت مداها.
فالسلطة التي ظنّت أنها تجاوزت أزمة الربيع بالتفافها على مطالب الشعب وتراجعها عن روح دستور 2011، سرعان ما كشفت عجزها. جاءت حكومة “الكفاءات” لتقضي على ما تبقى من الحقوق والمكتسبات، وترتكب ـ في نظر المحتجين ـ جرائم سياسية واجتماعية واقتصادية:
من تراجع حقوقي خطير عنوانه تكميم الأفواه، وشراء للإعلام، وقمع للتظاهرات، واعتقالات متكررة، إلى الحكومة المشرعنة للريع والتي تضم وزراء ورؤساء جماعات يربطون مصالح شخصية مباشرة بالقطاعات التي يسيرونها، في ظل صمت رسمي، فضلا عن فساد انتخابي صارخ، من تحلياته صعود وجوه مطعونة في نزاهتها، وبعضهم انتهى وراء القضبان.
أما فضيحة تضارب المصالح في أعلى هرم الحكومة فقد كانت بجلاجل، رئيس حكومة يتباهى بكونه التاجر الأول والمستثمر الأول وهو في الوقت نفسه المقرر الأول للسياسات الاقتصادية.
ومن جهة أخرى تم قتل العمل السياسي والمدني و تفريغ الأحزاب والجمعيات من دورها وتحويلها إلى مقاولات انتخابية وتحارية… غير أن الذي أجج نضالات الشباب وعموم الفئات المحتمعية هو الأزمات التي تعشش في مختلف القطاعات الحكومية، فالصحة تحولت إلى سوق للصفقات، والمستشفى العمومي إلى شبه خراب، والتعليم يتهاوى بمشاريع تجارية بلا رؤية بيداغوجية وتربويك واضحة، آخرها صيحة “مدارس الريادة” التي وُصفت بأنها بقرة حلوب لصفقات التحهيزات والصيانة فيدغياب رؤيك نستقبلية لمعالحك اعطاب المنظومة، بل أهوى بها المقاولون والتجار الذين تولوا المسؤوليات إلى مهاوي مسايرة التبسيط والتسطيح والتردي نتيجة ذلك كله، انفجرت موجة غضب جديدة قادها الشباب، من أمام المستشفيات والجامعات إلى الشوارع. وكانت المفاجأة في القمع الشديد، واعتقالات طالت المئات، فيما غابت الحكومة تماما عن المشهد؛ لا تفاعل، لا تبرير، ولا حتى خطاب يطفئ الغضب.
جيل Z لم يرفع شعارات سياسية كبرى، بل ركز على مطالب اجتماعية وتنموية وحقوقية بالأساس، وانتقد الطبقة السياسية برمتها. وهذا يُعيد طرح سؤال جوهري:
هل نحن فعلا بحاجة إلى المونديال وصرف المليارات على البهرجة، بينما نعاني انهيارات بنيوية في الصحة والتعليم، ونواجه الغلاء الفاحش والتهميش، ونفتقد إلى ديمقراطية حقيقية تكفل الحقوق والحريات؟
إنه جيل جديد، أكثر وعيا من أن يخدع، وأكثر شجاعة من أن يسكت. وما نراه اليوم قد يكون بداية مسار أطول يعيد رسم ملامح العلاقة بين الدولة والمجتمع.
Sorry Comments are closed